07-أغسطس-2018

محمّد شقديح/ فلسطين

 تطرح فكرة إصرار بعض سياسيينا الفلسطينيين على التمسّك بمنصب الأمانة العامة لمدة قد تقارب الخمسين عامًا، رغم تجاوزهم الثمانين من العمر، السؤال عن ماهية السياسة، وما إذا كانت مهنة ينطبق عليها ما ينطبق على المهن الأخرى، من مستلزمات الحدّ الأدنى أو الأعلى لسنّ التقاعد، أم أنها نشاط ذو طبيعة مغايرة، لا يمكن الفكاك من شراكه إلا بالموت؟

 أي محاولة لفهم الحصاد الهزيل لفصائل العمل الوطني على مستوى الأهداف الكبرى، لا بد لها أن تمر عبر فهم الآليات الديمقراطية أو التنظيمية التي اتخذتها  

في حياتنا اليومية نتعرّف على العمل بوصفه عقوبة حلت بِنَا من زمن غابر، إلى الدرجة التي تجعلنا ننتظر انتهاءه بفارغ الصبر، كما لو كان الخلاص منه نوعًا من الاحتفال. إذًا فما السرّ الذي يدفع السياسيين إلى المضي إلى أعمالهم المجهدة حتى موعد اللحظة الأخيرة في حياتهم بغبطة، إن لم يكن في الأمر ثمة إغراء يتفوّق على أي إغراء آخر اختبرناه في حياتنا اليوميّة.

يستمد السياسيون سواء كانوا في المعارضة أو في السلطة الإغراء من طبيعة السياسة ذاتها كونها نشاطًا إداريًا يمنح من يمارسها سلطة، أي حق إدارة الشؤون العامة لحياة أناس غيرهم، وإلى حد ما تقرير مصائرهم. إننا أمام أشخاص تتحول أقوالهم إلى أفعال، كما لو كانوا شركاء في خلق العالم وفي إغناء وجوده. ينطبق ذلك على القادة جميعًا، سواء كانوا جزءًا من مشروع تحرر وطني ضد استعمار أو كانوا قادة دول مستقلة.

قد يكون من الإجحاف أن نضع الممارسة الديمقراطية لفصائل العمل الوطني على مشرحة النقد، لفهم أوجه قصور التجربة الديمقراطية لديهم من جهة، وفهم آثارها على بنية العلاقات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني في مناطق تواجده الرئيسة، دون أن نأخذ بعين الاعتبار طبيعة معركة التحرر الوطني، التي تعطي الأولوية لإدارة العمل المقاوم على حساب التفكير بإدارة المجتمع ديمقراطيًا. ودون أن نغفل بالطبع، انتفاء أية سيادة فعلية لهذه الفصائل على إدارة حياة الفلسطينيين في دول اللجوء التي يتواجدون فيها. إلا أن التجربة العملية لطريقة إدارة مناطق السلطة الفلسطينية من قبل فتح، أو عملية إدارة قطاع غزة من قبل حماس، تقدم نموذجًا يتطابق لحد كبير مع أنماط الحكم السائدة في منطقتنا العربيّة. حيث يتحول الرئيس المنتخب إلى رئيس مدى الحياة، أي إلى رئيس بمرتبة زعيم، بما تعنيه الزعامة من تفلت من أي نوع من المسؤولية السياسية وثم التفلت من المحاسبة، حتى لو أدت سياساته إلى إلحاق أفدح الأذى بالمشروع الوطني.

إن أية محاولة لفهم الحصاد الهزيل لفصائل العمل الوطني على مستوى الأهداف الكبرى لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، من حيث التحول عن هدف تحرير فلسطين إلى هَدَف الدولة المستقلة على حدود الأراضي المحتلة في عام 1967، ومن غرقه في صفقة السلطة الوطنية الفلسطينية على جزء محدود من الأرض الفلسطينية، إلى المخاطر التي تهدده في صفقة القرن، لا بد لها أن تمر عبر فهم الآليات الديمقراطية أو التنظيمية التي اتخذتها التنظيمات الفلسطينية لإدارة شؤونها الداخلية كما لإدارة علاقتها مع القاعدة الجماهيرية التي تقود نضالها أو علاقتها مع فصائل العمل الوطني الأخرى، دون أن يغيب عن بالنا بالطبع عامل ميزان القوى المختل لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي.

لقد أكدت جميع فصائل العمل الوطني، يمينها ويسارها، في أنظمتها الداخلية على أهمية الديمقراطية في بناء علاقتها الداخليّة، لكنها لم تفتن وتعجب وتقع في هوى أشكال الإدارة السياسية كما هو عشقها لمبدأ "المركزية الديمقراطية" ببصمته الستالينية التي قاد العمل به في مجتمعها الأم إلى نشوء عبادة الفرد أو الزعيم، وتكريس ولاياته إلى آخر يوم في حياته.

   النقد الذاتي طقس سياسي تقليدي يعد مقابلًا موضوعيًا لمفهوم الاستغفار، الذي يسمح للسياسي بالتخلص من عبء الخطأ الذي ارتكبه  

الأمر الذي يفسّر لنا إصرار البعض على البقاء في منصب الأمين العام، حتى ولو تقلص حجم التنظيم الذي يقوده إلى عدد أصابع اليد الواحدة، في ظاهرة تحاكي رفض أحد الخلفاء الراشدين التخلي عن منصب الخلافة، لاعتباره الأمر بمثابة تكليف إلهي لا يجوز التخلي عنه أو التفريط به. لكي نفهم تعلق البعض بمبدأ المركزية الديمقراطية، يكفي أن نعرف أن هذا المبدأ الذهبي لا يقترب من قريب أو من بعيد لتحديد المدة الزمنية لبقاء الأمين في منصبه، كما لا يقترب من العقوبات التي يمكن أن تفرض بحق القيادي الأول في حال إساءته للسلطات الممنوحة له، أو حال فشل تصوراته للوضع السياسي القائم، اللهم سوى القيام بطقس النقد الذاتي، المقابل الموضوعي لمفهوم الاستغفار، الذي يسمح له بالتخلص من عبء الخطأ الذي ارتكبه، دون أن يكون مضطرًا للاعتراف بمسؤوليته عن ذلك الخطأ، وذلك بخلاف الواقع في الأنظمة الديمقراطية الذي قد تكلف مثل تلك الأخطاء المسؤولين السياسيين في تلك البلدان فقدان  المنصب الذي يتمتعون به.

واجه الفلسطينيون طيلة السنوات الماضية فقدهم لوطنهم عبر رفعه إلى مصاف الجنة المفقودة، وهكذا فإن أي تصور لفلسطين بأقل من كونها دولة حق وقانون هو تحويلها إلى نسخة من الجحيم، وهو هدر متعمد لكل التضحيات التي قدمها الفلسطينيون على مذبح الحرية.


 اقرأ/ي أيضًا:

فصائل البريد الإلكتروني

5 كتب أساسية عن القضية الفلسطينية

محمود عباس.. أن تقف ضد نفسك