14-فبراير-2021

مروان البرغوثي في مكتبه برام الله (4 كانون أول/ ديسمبر 2000)/ Getty

مقال رأي |

عند الحديث المتكرر عن ترشح مروان البرغوثي لرئاسة السلطة الفلسطينية، هنالك الكثير من اللواحق الضمنية التي تلحق فكرة ترشّحه والحديث المحموم عنها مع كل سيرة انتخابات فلسطينية. أولها خاص، متعلق بإمكانية تحرره من السجن أو الضغط على "إسرائيل" لإطلاق سراحه أو إحراجها حين يكون رئيس السلطة في سجونها. ثانيها حركيّ، متعلق بحركة فتح، ويشير إلى أن مروان البرغوثي يعبّر عن شيء في حركة فتح، عن توجّه أو جيل أو تيار أو فئة، وهذه ستسانده وتدفع به في مقابلة مع القيادة الحالية، وتدرك أنّها قادرة عبر ترشحه على إحداث تغيير جذريّ في فتح. ثالثها، فلسطينيّ عام، متصل بقناعة أن مروان البرغوثي لو ترشّح سيفوز.

    يبدو أن مروان البرغوثي ومن حوله، وكذلك السلطة ورئاسة فتح، تتفق في سلوكها إزاء هذه الفكرة، ولا تأخذها إلى مستوى عمليّ. فهل ما نحن بصدده اليوم هو إنزال للفكرة إلى الواقع؟

التمعّن في هذه الأفكار اللاحقة لفكرة ترشحه للرئاسة، تظهر إلى حد بعيد أن سجالًا عامًا حقيقيًا حول فكرة ترشحه لم يطرح فلسطينيًا، بل ظل الأمر فكرة تستدعي جملة أفكار غير خاضعة للبحث في ضوء واقعية الفكرة وإمكانيتها. يبدو الأمر وكأن فكرة ترشحه مادة لمساومات أو آمال أو احتمالات، أكثر من كونه أمرًا وارد الحدوث.

ويبدو أن مروان البرغوثي ومن حوله، وكذلك السلطة ورئاسة فتح، تتفق في سلوكها إزاء هذه الفكرة، ولا تأخذها إلى مستوى عمليّ. فهل ما نحن بصدده اليوم هو إنزال للفكرة إلى الواقع بعد الأحاديث عن زيارات عضو مركزية فتح حسين الشيخ له في المعتقل وأخبار التفاوض الداخلي على موضوع الانتخابات؟

يحاول هذا المقال إنزال الفكرة إلى الواقع ومساءلتها.

لماذا يريد مروان البرغوثي الترشح لرئاسة السلطة؟

الإجابات المتداولة في غالبها خاص متصل بشخصه، أو على مستوى حركة فتح، ولا نلحظ تصورًا أو خطابًا متعلقًا بالفلسطينيين بعمومهم. ثمة ميل فتحاوي للتعامل مع المشروع الوطني والسلطة كشأن فتحاوي. 

  يقال إن هذه هي الطريقة الوحيدة لتحرير مروان من السجن، إحراج "إسرائيل" أو عدم اتّساق وجود رئيس للسلطة في السجن 

يقال إن هذه هي الطريقة الوحيدة لتحرير مروان من السجن، إحراج "إسرائيل" أو عدم اتّساق وجود رئيس للسلطة في السجن، طرح للأمر على مستوى دولي. يتوقف هذا الجواب عند إحراج "إسرائيل" أو خروج البرغوثي من السجن. ولا يحمل مشروعًا في حال فاز، لا مشروعًا عمليًا عن ماذا سيفعل لو فاز وظل معتقلًا، ولا مشروعًا وطنيًا في حال فاز وخرج من السجن لرئاسة سلطة انبنت وتشكّلت في طورها الحالي الأوضح على علاقة مع الاحتلال، بصرف النظر عن تعريفها، علاقة يقرّ الجميع بأن سقفها هو التعامل مع الاحتلال كواقع، التفاوض معه في أحسن الأحوال، والتنسيق معه على الأرض.

ثمّة تجاهل لحقيقة أنّ رئاسة السلطة تعني الوجود في موضع المفاوِض لا وضعيّة القائد الميداني الذي كانه مروان البرغوثي مطلع الألفية وانتهى به إلى السجن الإسرائيلي.

ثم لا إجابة واضحة عن احتمالية واردة جدًا، هي ترشّحه وعدم فوزه. ماذا سيعني هذا له كشخص ولمشروعه إن كان هناك مشروع يتجاوز مناوءة القيادة الحالية لفتح؟ هل يفكّر مروان البرغوثي ومن معه بإمكانية التنافس وعدم الفوز؟ ألا يشكّل ذلك مقامرة في حال خسارتها سيخسر مادة المساومة، الداخلية والسياسية، الأهم مع السلطة وفتح، أي التلويح بالترشح؟

حتى اليوم لا تخوض السلطة أو قيادات في فتح خطابًا أو سجالًا ضدّ ترشّح مروان البرغوثي أو في مقابلته، يميلون لاستنفاد أدواتهم في التفاهم معه لا في مواجهته، هذا في العلن، وربما يكون هنالك سجال داخلي متصل بالتنظير ضد الفكرة، ولأنه لم يظهر إلى العلن في حركة تصير أمورها الداخلية قضايا عامة، فيمكن القول بثقة إن هذا السجال غير موجود على مستوى حقيقي. وهذا قد يعكس قناعة أن فكرة ترشحه غير واقعية وهو يدرك ذلك.

وكذلك قد يشير إلى عدم قلق القيادات الفاعلة في فتح من ترشّحه لو حصل، فالإمكانيات على الأرض والفعالية العملية في الحشد والتنظيم تقول إن مرشح فتح الرسمي قادر على الفوز بالانتخابات، بتحالفات واسعة، قد تشمل حتى حماس أيضًا، هذا ما نسمعه مؤخرًا حتى من قيادات في حماس. وهذه الانتخابات كما باتت قناعة عند الكثيرين، مصممة بطريقة أو بأخرى، متفق على ألا تنتج عنها مفاجآت. المفاجأة الوحيدة هي انفتاح النقاش حول مروان البرغوثي وترشحه.

   تقول قيادات محيطة بمروان، بدأت أسماؤها تتضح مؤخرًا وكأنها ملامح تيار، أن هنالك مصلحة وطنيّة في ترشّحه    

تقول قيادات محيطة بمروان، بدأت أسماؤها تتضح مؤخرًا وكأنها ملامح تيار، أن هنالك مصلحة وطنيّة في ترشّحه. ولكن حتى الآن لا يظهر من هذه المصلحة الوطنية إلا سجال فتحاوي داخلي. مروان يعبّر عن شيء داخل فتح ولا بد من التحرّك لتثبيته أو استعادته. يبدو أن هنالك إيمانًا بأن وجود مروان على رأس فتح هو في مصلحة فتح والشعب الفلسطيني، ولكننا حقيقة لم نحظ بفرصة معرفة كيف ذلك، بتنظير ومشروع واضح ومعلن. مروان رمز، لا يوجد من يبذل جهدًا شعبيًا في توضيح ترميزه، إلى ماذا يرمز اليوم؟ إلى ماضي الانتفاضة؟ إلى مشروع محدد؟ ما هو؟ كيف سينفّذه وهو على رأس السلطة، وهو رئيس السلطة الفلسطينية بكل التزاماتها وإكراهاتها؟ بل هل وجوده على رأس السلطة مفيد للمشروع أصلًا أم متعارض معه؟

قد تكون فائدة ترشّحه أن نطّلع أخيرًا كفلسطينيين على المشروع هذا، نراه برنامجًا انتخابيًا واضحًا، وعلى الأقل صرنا خبراء بالممكن في سقف سلطة واطئ.

ثمة جملة افتراضات غير مفحوصة، تتصل بفكرة ترشح مروان للرئاسة، وثمة افتراضات أيضًا متّصلة بعلاقة الفلسطينيين مع انتخابات الرئاسة، تعكس افتراضًا لطبيعة المشروع الذي سيصوّت له الفلسطينيون في الضفة وغزة.

   كلمة السر في صيف الانتخابات هذا هي "التوافق"، التوافق الذي يمنع المفاجآت، أما ضمانتها فهي "عدم التزامن" الذي أصرت عليه فتح   

في أول انتخابات صوّت الفلسطينيون للجسم الأكبر، لفتح، لم يكن هنالك من ينافسها، وصوّتوا لقائدها، الذي لا احتمال لمنافسته. وفي الانتخابات الثانية بعد عشر سنوات من الأولى صوّتوا لمعاقبة خيارهم الأول، هذا ما قاله الجميع، حتى حماس الفائزة، وصوتوا لـ "أبو مازن" المرشح بدون منافسين ذوي وزن. واليوم بعد أكثر من 15 سنة، ما الذي سيحكم تصويتهم؟ هل سيعاقبون الفائزين؟ لا بد من توفّر منافس يعاقبون الفائز بالتصويت له. هل يفكّرون بمعاقبة سلطات الأمر الواقع في غزة والضفة دون التفكير في ما حدث بعد معاقبتهم فتح في الانتخابات السابقة؟ حين بدا الجميع مدركين لسقف هذه الانتخابات والسلطة تحت الاحتلال.

هل يمكن الوصول إلى ترسيمة للفلسطينيين ومواقفهم إزاء الانتخابات؟ أولًا هنالك المقاطعون لأسباب سياسية ووطنية واضحة، هذه سلطة تحت الاحتلال، سقفها الاحتلال. وثانيًا هناك اليائسون من جدوى التصويت في ظل تجربة الانتخابات الماضية والضغط الدولي والنزاع الداخلي، وهؤلاء مقتنعون أن الانتخابات مصممة، تجديد شكلي على بنية ثابتة. وهناك أيضًا من يدركون السقف ويريدون الأقدر على إدارته بدون ادّعاءات كبرى، يريدون إدارة لسلطة تحت الاحتلال، يقرون بالواقع ويصوتون لـ"الواقعي"، وهذه الفئة موجودة وحقيقية مهما حاول كثيرون إنكار وجودها. ولا يغيب عن أي متابع وصف أبو مازن بصفات من قبيل الصراحة والواقعية والتعامل مع الواقع كما هو.. إلخ. وهنالك من يصوّتون كما تقول حركاتهم وأحزابهم وعائلاتهم، وأكثر ما في الأمر يمتنعون عن التصويت. بالتالي فإن التسرُّع والافتراض أن المرشح الأكثر "وطنية" أو صاحب المشروع المناوئ للاحتلال سيفوز، يبدو مبالغة. وببساطة لا يوجد من يرى رئاسة السلطة بوّابة لمشروع تحرري حتى يختار لها رمزًا للتحرر ومواجهة الاحتلال.

إنّ النظر الواقعي لما يجري وتعطيل الانتخابات لكل هذه الفترات إنما يصب في حقيقة أن إجراءها لن يتم ما لم تكن نتائجها شبه محسومة. ولعل السيناريو الخطير المتمثل بمفاجآت معاكسة لواقع سيطرة الفصيلين الكبيرين، قد يفتح الباب للانقلاب على المسار كلّه، ولن تعدم سلطات الأمر الواقع إيجاد مبررات وقشورا قانونية لإعادة هندسة المشهد ناقصًا المفاجآت غير المحسوبة.

     هنا يظهر ترشح مروان البرغوثي كمعركة فتحاوية داخلية، ككسر عظم داخل التنظيم. ما قد يجعله ذا أثر فلسطينيًا هو تحوّله لمشروع أو لتيار واضح     

هنا يظهر ترشح مروان البرغوثي كمعركة فتحاوية داخلية، ككسر عظم داخل التنظيم. ما قد يجعله ذا أثر فلسطينيًا هو تحوّله لمشروع أو لتيار واضح. حتى لو ترشح وخسر الانتخابات سيكون التيار قد أفصح عن نفسه وبان حجمه وعرفنا مشروعه. مع أن سيرة الانقسامات في فتح تظهر غلبة واضحة للجسم الرئيس للحركة، فما بالك إن كان قائد الانقسام في السجن بلا تيار وازن منظم، يقابل التيار السائد المتغلل في السلطة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية. هذه تحديات كبرى، ومما يظهر حتى اليوم فلا إمكانية لوجود هذا التيار بقوة تصل حتى كسر العظم. ولذلك تبدو فكرة ترشح البرغوثي مساومة مستمرة لا مشروعًا عمليًا.

إن الثمن الذي يدفعه البرغوثي، والتاريخ الطويل من الاعتقال والنضال، يبدو أكبر من مساجلات السلطة وانتخاباتها لو وصل إلى خيار الترشح لرئاستها ضد مرشح فتح الرسميّ. سيكون المشهد مُهدِدًا لرمزية الرجل، وغير مضمون النتائج. أما الحديث عن تحالفات بين البرغوثي وتيار دحلان، فكفيل أن يمحق الرمزية، ويظهره بمظهر المتصارع بأي ثمن ودون أي خطوط حمراء على سلطة رأسها خاضع للاحتلال متقبّل له، حالة يبدو السجن أفضل تعبير عنها، ولكنها منزوعة الرمزية الوطنية والمشروع النضالي الجامع. أمّا تحالفه مع تيارات أخرى، حماس مثلًا، ولو بشكل غير معلن، فربما يسهّل مهمة خصومه في فتح في تفجير النقاش بشأنه داخليًا ليظهر كمشروع فردي، لا تيار يريد مصلحة الحركة. والواضح هنا هو إدراك قيادة فتح ممثلة بأبو مازن لخطورة أي محاولة لتثبيت تيار مخالف داخل فتح، حتى بقائمة في انتخابات التشريعي، وبلغ الأمر حد تهديدات غير مسبوقة لمن يترشح في قائمة غير الرسمية، وفي هذا قطع للطريق على وجود قائمة قد يدعمها البرغوثي أو يكون دعمها ضمن تفاوضه الداخلي مع قيادة فتح.

    يظل في البال سؤال كبير: لماذا يفكر البرغوثي وتياره بالسلطة وليس المنظمة؟    

إن كلمة السر في صيف الانتخابات هذا هي "التوافق"، التوافق الذي يمنع المفاجآت، أما ضمانتها فهي "عدم التزامن" الذي أصرت عليه فتح بقيادتها المتنفذة وحققته بكثير من الضغط. كل هذا لم يكن كافيا وتحوّط أبو مازن بإجراءات قانونية وصلاحيات لها يد عليا على الواقع وتشكيله.

يظل في البال سؤال كبير: لماذا يفكر البرغوثي وتياره بالسلطة وليس المنظمة؟ ألا يبدو أقرب للمشروع الوطني ولما يرمز إليه البرغوثي أن يتركّز خطابه على المنظمة لا السلطة؟ لماذا لا يتطوّر تيار البرغوثي ليتجاوز السلطة نفسها، إلى المجلس الوطني، إلى الشتات الذي يطرح اليوم بأدوات عدة مشكلته مع التمثيل الفلسطيني وحصره بالضفة وغزة، ثم أن يكون رئيسًا للمنظمة بكل ما في ذلك من رمزية تحررية متّسقة مع صورته كما يراها المتضامنون مع القضية الفلسطينية ومعه كأحد رموز نضالها الأحياء والفاعلين؟ 


اقرأ/ي أيضًا:

فصائل البريد الإلكتروني

فتح التي ترقص على حبل العشيرة

حوار فلسطيني برعاية "فرع فلسطين ومخابرات السيسي"