18-يوليو-2019

عندما ينتهي علي الطوق إلى العمى، فإنه يكون قد امتلك كامل البصيرة التي أدرك معها أنه لم يكن يرى، الرؤية بما هي وعي، لا بما هي مشاهدة مشوّهة عاجزة عن إدراك الحقيقة.

عندما انتهى ياسر الزرعيني إلى العجز، فإنه كان عجزًا مزدوجًا، العجز المادي، والعجز عن القدرة على الفعل

وعندما انتهى ياسر الزرعيني إلى العجز، فإنه كان عجزًا مزدوجًا، العجز المادي، والعجز عن القدرة على الفعل، وهو الذي كان محاربًا يصنع الحدث من الأزقة مع مجموعة من المقاتلين.

أحدهما كان شاهدًا تائهًا فبصّره عماه.

والثاني كان فاعلاً حقيقيًّا فعجّزه الضعف وأشراط لعبة السياسة التي لا تؤمن بالبطولة. لقد فقد رجلاً واحدة، فظلت له أخرى على أمل النهوض، ولو بمساعدة.

اقرأ/ي أيضًا: المكتبات العامة في رام الله.. محتوى شحيح وحلقة وصل مفقودة

يلتقي الطوق والزرعيني في سيارة الإسعاف، في منتصف رواية وليد الشرفا الأخيرة "ليتني كنت أعمى" الصادرة عن "الأهلية" حديثًا، في لحظةٍ فاصلةٍ بين زمنين، زمن الضلالة عند صاحب كاميرا التوثيق- الشهادة على العصر، وزمن البطولة عند المقاتل حتى بترت رجله، فأضحى هامشًا فقد القدرة على الفعل.

بطلا الرواية جاءا من زمنين مختلفين: أما علي، فمن زمن البطولة الماضي خارج الوطن. وأما ياسر، فمن زمن بطولة الوطن. وقد اتحد الزمنان ليضعا الرجلين على واقع لم يكن الأول يراه، ولم يكن الثاني يقبل به. لكنها لعبة الرواية الذكية، فالحقيقة دونها فقدٌ وألمٌ حتى يصحو الوعي من غفلة الذاكرة والحلم.

أعمى يقود بصيرًا لا أبا لكم.. قد ضل من كانت العميان تهديه!

كانت مقولة الرواية تحاكي بيت صاحبنا بشار بن برد، فالأعمى بكامل البصيرة الآن، والبصير بكامل العجز، إلا أن "ليتني كنت أعمى" ترى أن العمى والعجز هنا فكرتان مجازيتان.

تتخفف رواية الشرفا هذه من الشعار إلى حده الأدنى، فالدم يكتب الأحداث، والضجيج يخلقه صوت الرصاص وأنّات الجرحى، جرحى الصدفة والفضول ومحاولة استعادة ماضي الثورة المقاتل، وجرحى المواجهة والتحدي لصناعة المستقبل.

يتواطأ البطلان القادمان من زمنين متناقضين على اللقاء في لحظةٍ يحاولان فيها أن تكون ماضي الأول (علي) ومستقبل الثاني (ياسر).

لاجئان، أحدهما في مخيم خارج فلسطين، والثاني في مخيم داخلها، اختلطت دماؤهما لتكتب رواية في سيارة إسعاف، يقودها سائقٌ أرعن، قاد مشروعهما بالصدفة، ليجدا نفسيهما في سريرين متجاورين بمستشفى في أحداث الانتفاضة الثانية، التي انتهت عندها كل البطولة التي كانا يحاولان عبرها صناعة زمن الانتصار، لكنه انتصار الوعي على الهزيمة التي نعيشها.

في الرواية صورٌ أخرى تساند حكاية بطلينا. ففيها، كأن التاريخ يعيد نفسه: مدّعون من زمن مضى كانوا يختبئون "في الملاجئ" والمعاركُ مشتعلة، يدّعون أنهم كانوا في خطوط المواجهة الأولى. وفصائل اليوم تساوم على شراء شهيد!

البطولة يصنعها أفراد، وتتكسب منها فصائل ونُظُم. يزرعها أبطالٌ أفرادٌ شجعان، ويحصد ثمارها و"خيرها" فصائل وجبناء.

البطولة يصنعها أفراد، وتتكسب منها فصائل ونُظُم. يزرعها أبطالٌ أفرادٌ شجعان، ويحصد ثمارها و"خيرها" فصائل وجبناء.

اقرأ/ي أيضًا: أولاد المختار: حكاية جميلة عابها إهمال التاريخ والتفاصيل

هل للأسماء من دلالة؟ علي وياسر!

كأن "علي" الذي تجاوزته "الخلافة"، كما في مأثور الفداء، فنالها غيره، وظل هو محافظًا على دوره ملحمة تمشي علي رجلين.

علي الذي يتنفس من عينيه، يفقدهما عندما تجلت الحقيقة: المقاومة. لا يحتاج التاريخ الهزيل لتأريخ البطولة. التاريخ يكتبه المنتصر، ولعل عليًّا آخر يبصر فيكون قادرًا على التأريخ في زمن انتصار مقبل.

حتى ياسر، المقاوم، توأم الشهيد، ومشروع الشهيد، وحامل اسم القائد، يفقد رجله- وسيلته إلى المقاومة، رغم أنه كمثقف -اعتاد نظراؤه أن يكونوا ثرثارين وجبناء- خرج عن صفهم، وغرد بعيدًا عن نشاز نظرياتهم وعليائهم.

الرواية محملة بالدلالات، من الجد الذي لن يصلّي لأنه "لا حرام طالما قامت إسرائيل"، إلى السيدة المكلومة التي تنتظر السماح بدفن ابنتها المسعفة، التي تضاءل حلمها من استعادة جثمانها إلى السماح لها بدفنها في قبر معلوم، إلى نيكول- الغواية الوهم، المتعة الزائفة، الجمال الذي ستكشف الأيام ترهله وفساده، السلام والاتفاق البرّاق، الذي يسبب نشوة عابرة، لا يمكن لحُر إلا أن يشعر بالدنس بعد أن يعيشها، لأنه سفح كرامته وطهرانيته على وهم امتلاكها.

البناء محكم جدًّا، والشخصيات تقدم نفسها بهدوء ودون ابتذال، وهي تلتقي في سياق لا نشاز فيه ولا إقحام. والقصة تسير برتم أخّاذ، لا تفسد أحداث الحاضر، العودة إلى الماضي.

شخصياتٌ من لحم ودم، تسمع صوت وجعها، وتصيب اللزوجة يديْك وأنت تتابع حوار البطلين في سيارة الإسعاف، والدم ينزف منهما. وفي مشهد الرواية الأخير، تسمع بوضوح الشتائم من الآمنين المطمئنين، في زمن الوهم، على اثنين يجرّ أحدهما الآخر عكس اتجاه السير، عكس السائد والنمطي.

قبل هذا وبعده، على العمل الروائي أن يكون ممتعًا، فلا فائدة من فنّ لا يوفر المتعة، ولقد استمتعت كثيرًا في رواية "ليتني كنت أعمى".


اقرأ/ي أيضًا: 

مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط

استعادة كمال الجعبري ليافا.. عدالة سينمائية

"عشر سنين" يُعيد السينما لغزة بعد سنوات عجاف