15-مارس-2020

يبدو أن الفلسطينيين أنجح شعوب الأرض في مواجهة انتشار فايروس كورونا الذي يهدد مصير مئات آلاف البشر في دول العالم، ونجاحهم المتوقع في مواجهة هذا المرض يعود إلى مجموعة من العناصر تميزهم عن باقي شعوب الأرض، فما هي هذه العناصر؟.

تحويل الاحتلال للضفة وقطاع غزة إلى كنتونات معزولة عن بعضها البعض، سهل من محاصرة المرض ومنع انتشاره فور اكتشافه في بيت لحم

1. ينتشر فايروس كورونا بين البشر بسرعة بالغة نتيجة تخالط السكان واحتكاكهم ببعض، لذا يصعب محاصرة الفايروس في الأماكن المكتظة، ويضعف انتشاره في المناطق المعزولة المتباعدة، ولهذا العامل أهميةٌ خاصةٌ في تقليل فرص انتشاره في فلسطين رغم صغر مساحة فلسطين واكتظاظها، فما فعله الاحتلال الإسرائيلي على مدار 53 سنة من تحويل كافة المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى كنتونات معزولة عن بعضها البعض، سهل من محاصرة المرض ومنع انتشاره فور اكتشافه في مدينة بيت لحم.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا: فايروس خارج عن القانون الفلسطيني

مدينة بيت لحم لا تحتاج لأكثر من عشرة رجال أمن فقط كي يحولوا دون خروج أي شخص منها أو الدخول إليها، لأن المستوطنات الإسرائيلية تحاصرها من الجهات الأربعة، وليس لها سوى مدخلين يمكن التحكم بهما، مما سهل على الحكومة منع انتشار المرض خارج المدينة، وهذا هو حال كل المدن الفلسطينية.

قطاع غزة، أيضًا، كنتون بشري منعزل عن العالم منذ سنين طويلة، يصعب دخول المرض إليه،  فهو بحاجة إلى شرطي وطبيب وممرض وميزان حرارة على مدخل القطاع لفحص أي زائر لمنع وصول الفايروس، وإغلاق المعابر المغلقة أصلاً غالبية الوقت من شأنه أن يحمي القطاع من انتشار المرض.

وهذه المواصفات تنطبق أيضًا على كل المدن الفلسطينية في الضفة الغربية من الخليل في الجنوب إلى جنين في الشمال، فهي بحاجة إلى جهد بسيط كي يتم عزل هذه التجمعات في الكنتونات التي خلقها الاحتلال طوال هذه السنوات .

2. محاصرة المرض تقوم أيضًا على فكرة منع الاحتكاك بين أبناء التجمعات السكانية ذاتها، لذا يجب حصر حركة السكان والإبقاء عليهم في  منازلهم في هذا الوقت البسيط، وهذه فكرةٌ صعبة التطبيق لغالبية شعوب الأرض، لكنها تجربة سهلة للفلسطينيين، عاشوها مرارًا وتكرارًا، فقد عاشوا في حصار ومنع تجولٍ لأسابيع وشهور عديدة لعدة سنوات في الانتفاضة الأولى عام 1987، وفُرِضَ عليهم حظر التجول في حرب الخليج الأولى عام 1990، وأُجبِرُوا على العيش في كنتونات منعزلة وفي حظر تجول وحصار شديد لأكثر من ثلاثة أعوام في انتفاضة عام 2000، وقدرتهم على الحركة مشلولة في غالب الأيام بفعل حواجز الاحتلال، لذا لن تضيق صدور الفلسطينيين ذرعًا لو التزموا البيوت شهرًا أو شهرين، بل لديهم قدرة عالية على التكيف في مثل  هذه الظروف، على خلاف شعوب الأرض الأخرى التي يصعب عليهم التزام بيوتهم ليوم واحد، فبعض الشعوب لم تعش مثل هكذا ظرف منذ عدة أجيال.

3. غالبية الشعوب التي انتشر بها المرض أو مهددة بانتشاره، لديها اقتصاد تخشى انهياره لو التزم الناس بيوتهم وتوقفت عجلة الإنتاج، لذا وضعوا خططًا بعشرات المليارات لمواجهة الكارثة المتوقعة أو التي وقعت فعلاً. أما الفلسطينيون، فلا اقتصاد يُخشَى انهياره في حال التزموا بيوتهم، ونمط حياتهم استهلاكي أكثر من كونه إنتاجي، وطبيعة عملهم أكثر في قطاع الخدمات منه في قطاع الإنتاج، لذا لن يلحق بالغالبية ضررٌ، وإنما سيصيب الضرر فقط بعض الفئات الاقتصادية مثل التجار وأصحاب المطاعم والقطاعات الشبيهة والعاملون لديهم، وكذلك العمال في "إسرائيل"

لا اقتصاد يُخشى انهياره في حال التزم الفلسطينيون بيوتهم، خلافًا للدول التي انتشر فيها المرض

رغم ذلك، فإن هذا التحدي اعتادت على ألمه هذه الفئات بين مرحلة وأخرى، فقد عاشت فئة التجار هذه المرحلة مرات عديدة كان آخرها قبل عدة شهور بسبب حجز "إسرائيل" للمقاصة، وتوقفت رواتب الموظفين الحكوميين، ومع ذلك تمكنوا أكثر من مرة من عبور مثل هذه المرحلة بسلام، وسيعبرون المرحلة الجديدة ويمروا منها، فقد عاشوا أزمات عديدة أقسى منها منذ الانتفاضة الأولى وتجاوزوها حتى لو كان ذلك بألم.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا في بيت لحم: هل حدث تقصير أو تخبط؟

التجارة مبنيةٌ على فكرة الأزمات وعدم الاستقرار، وقدرتهم على الضغط والتأثير على السياسات محدودة، فهذه القدرة منوطة في الاقتصاد الفلسطيني فقط بالبنوك وشركات الاتصالات، ولحسن حظ هذه الشركات فإنها لا تتأثر بهذه الأزمات، وتمارس نشاطها في جلب المال دون أي إحساس بالكورونا. فالبنوك لا تقدم على الغالب قروضًا إلى الفئات الأكثر تضررًا، بل تقدمها إلى فئات مضمونة، وبكفالات عديده تقلل من مخاطر هذه القروض. أما شركات الاتصالات فهي لا تعيش الحالة إطلاقًا، وتحظى برعاية الدولة، ولا يهمها الظروف إطلاقًا، لذا تجدها تفصل كل خدمة لا تقم بسداد ما عليها من فواتير، بل ما يجري فرصة ذهبية لزيادة أرباحها، فالانترنت هو فرصة التواصل الأكثر انتشار، وبذلك فإن الكورونا في خدمتها، حتى لو تبرعت بنصف مليون دولار من أرباحها العالية لصالح الحكومة، فهي قدمت نفسها الأكثر عطاء في ظل الأزمة.

4. يتمتع الفلسطينيون بقدرة عالية على التضامن الاجتماعي والتكيف مع الظروف الشديدة في وقت الأزمات، فتجدهم متكافلين متضامنين، قادرين على اقتسام لقمة العيش، وسرعان ما يذهبون لإنعاش الزراعة البيتية في الريف لتخفيف أعباء الحياة، وقد خدمهم أن هذا الوباء المفترض جاء في فترة الربيع، لذا ستنتعش الزراعة وسيجنون ثمارها في أسابيع عديدة.

وعبء الناس تلقيه الحكومة على الناس أنفسهم، لأنها غير قادرةٍ أصلاً على توفير أعباءٍ تفوق الأعباء الموضوعة عليها، خاصة رواتب الموظفين، لذا تواجه السلطة الأزمة دون تحمل أية مسؤولية تجاه من تتعثر بهم السبل من الناس، فهي لن تقدم على صرف رواتب لعمال "إسرائيل" لو توقفوا عن العمل،  ولن تقدم باعتقادي على منعهم من العمل ما لم تقرر السلطات الإسرائيلية ذلك من تلقاء نفسها، وإن رغبت بذلك لن يمكنها فعل الأمر، فهذه فئة واسعة ولا يمكن ضبطها، كونهم يتنقلون من مناطق لا تخضع للسيطرة الفلسطينية، ولا يمكن لأحد توفير البديل لهم، سوى بياناتٍ تضامنيةٍ سواءً من الحكومة أو النقابات أو الأحزاب أو حتى مؤسسات المجتمع المدني، فلا حقوق عمالية مصانة لهم لدى السلطة الفلسطينية ولا لدى السلطة الإسرائيلية التي تشرف على تشغيلهم، والتي يتوجب أن يعلو الصوت المطالب لها بتحمل مسؤولية تعويض العمال في حال توقفهم عن العمل بقرار منها بسبب هذا الوباء.

تواجه السلطة الأزمة دون تحمل أية مسؤولية تجاه من تتعثر بهم السبل من الناس

5. للفلسطينيين رغبة شديدة في ممارسة السلطة واستعراض القوة لأن سلطتهم الحقيقية على الأرض محدودة، لذا وجد الفلسطينيون في مواجهة كورونا فرصة لاستعراض القوة والتعامل مع أزمة حقيقية لا يوجد فيها مواجهة مع السلطات الإسرائيلية، فجاء إعلان الطوارئ في مناطق السلطة الفلسطينية للوقاية من المرض لضعف إمكانية علاجه لو حصل، وهذه فلسفة اتبعتها السلطة كانت بمكانها الصحيح، في حين تتردد دول العالم في إعلان حالة الطوارئ رغم انتشار الفايروس وفتكه بعدد كبير من سكانها.

هذه البلدان أوقفت الطيران وأغلقت الحدود وعطلت المدارس وعزلت أقاليم، ومع ذلك لم تجرؤ على إعلان حالة الطوارئ، أما نحن فقد تمتعنا بشجاعة إعلان الطوارئ، وساهم هذا الإجراء الذي بدا للحظة الأولى استعراضيًا في منع انتشار الفايروس بين الفلسطينيين،  وتحول إلى سلوك إشادة من قبل منظمة الصحة العالمية بمدى جدية السلطة في مواجهة المرض، وشجع دولاً أخرى على أخذ تدابير طارئة رغم أنها لم تعلن حالة الطوارئ.

هذه ميزات تخصنا نحن الفلسطينيين دون غيرنا من شعوب الأرض، ويبدو أن رئيس الوزراء الفلسطيني التقطها منذ اللحظة الأولى وحولها إلى عناصر قوة في مواجهة فايروس كورونا، فهو يعلم أن هذه الميزات غير متوفرة لدى الإسرائليين أو الإيطاليين أو الإسبان أو الأمريكان أو غيرهم من الدول الغنية القوية، فأقدم على خطوة وصفها الكثيرون بالشجاعة، إذ أعلن الطوارئ، وعزل المدن، وقيد الحركة، ولن يتوانَ إن دعت الحاجة عن فرض منع التجول، وهذه كلها أدوات غير مكلفة للحكومة ولا تفرض عليه تبعات مالية تفوق قدرة الحكومة، وستمكن الحكومة والمجتمع من الانتصار على فايروس كورونا، فليس لدى الفلسطينيين شيء يخسرونه في هذه المعركة سوى فايروس كورونا إن استخدموا هذه الأدوات في محاربته، فأكثر الكلمات التي سمعها من هم بجيل رئيس الوزراء وعاشوا كل الانتفاضات السابقة "بيتك .. بيتك"، لكنها هذه المرة هي سر قوة الفلسطينيين، ومفتاح نجاتهم إن أحسنو استخدامها.


اقرأ/ي أيضًا: 

آنجل - كورونا: شهادات من داخل أشهر فندق في فلسطين

القادم كوفيد

كورونوفوبيا مثل إسلاموفوبيا