23-مايو-2019

الشهداء قصصٌ وأسئلة، وأنا لا أعرف معلم اللغة الإنجليزية المحبوب علي عبد الجواد الذي مات شهيدًا بقصفٍ إسرائيليٍ لبرجٍ في الحرب الأخيرة على غزة، كان يجلس وحده في المركز التعليمي الذي يعطي فيه دروس تقوية، بعد أن غادره مسرعين الطلبة والموظفون، خوفاً من قصف البرج، كان منهمكًا في كتابة أسئلة مقترحة لطلبة التوجيهي، تمهيدًا للامتحان القادم.

وصل صدى الرجة إلى رام الله على شكل سؤال محير: لماذا يموت الطيبون؟ الباعثون على الفرح والطاقة والثقة بالأشياء، لماذا؟

مات المعلم تحت الأنقاض، من يجرؤ على القول أن أسئلته ماتت معه؟ رافعو الأنقاض لم يتحدثوا عن أشلاء جثث أسئلة، كانت هناك جثةٌ وحيدةٌ لرجل، أين ذهبت الأسئلة يا الله؟ ترك موت المعلم صدمة ما زالت ترج غزة كلها، طلابًا  وأصدقاء وموظفين وأقارب وجيرانًا. وصل صدى الرجة إلى رام الله، وصل على شكل سؤال محير: لماذا يموت الطيبون؟ الباعثون على الفرح والطاقة والثقة بالأشياء، لماذا؟

اقرأ/ي أيضًا: جرحٌ غائرٌ في جبين التعليم.. علي وأماني شهيدان

الشهداء قصصٌ وأسئلة، مرة قال القاتل الشهير باراك، "قتلانا حكاياتٌ أما قتلاهم فأرقام"، لماذا أرغب بالكتابة عن المعلم القصة الذي لم يكن صديقي، ولا أعرف عنه سوى أنه كان وسيمًا و محبوبًا من طلبته وأصحابه؟ لطالما انتبهت جيدًا إلى الشهداء الذي يموتون بالصدفة وهم منهمكون في مشاغلهم، الحياتية، الشهداء الذين يتوقعون أنهم بمنأى عن الموت، لأنهم ليسو في مرمى  النار، لأنهم لا يحملون بندقية ولا يمشون إلى الجبهات، لأنهم يتوهمون أن العدالة لا يمكن أن تسمح  باحتمال موت شخص لم يشارك في قتال، في كل حروب  العالم، يذهب  الجندي إلى المعركة واحتمال موته يساوي احتمال نجاته، يصحو المواطن الغزي من نومه واحتمال موته بقصف صهيوني يصحو معه.

الشهداء قصص وأسئلة، صار المعلم علي عبد الجواد صديقًا لي بعد استشهاده، عزمته على "مقلوبة" أمي برام الله، عزمني على "سماقية أمه" في رفح، دعاني إلى صفّه لحضور ورشة كتابةٍ باللغة الإنجليزية، دعوته إلى صفي لورشة كتابة باللغة العربية، صار أخي الذي يصغرني بخمس سنوات، أخي الذي أحبته أمي أكثر مني لأنه لم يكن نكدًا وغامضًا مثلي، أفتح على صفحته الفيسبوكية وأقرأ، أحاوره ويحاورني، يعترض على بعض جوانب ارتجالتي اللامنهجية أحيانًا، ومرات أسأله عن  ترجمة معنى للغة الإنجليزية، و في نهاية السهرة أرسل له رسالة على ماسنجره: قل لي يا أخي، كيف يظل الإنسان وسيمًا في هذه الحياة؟ فيرسل لي قالب حب أحمر، ويختفي، أحاول النوم فأعجز، أزور صفحات طلابه وطالباته، أقرأ حزنهم ولا تصديقهم وفجيعتهم به: "كان يبتسم دايما، لم يعنّف يومًا طالبًا، كان يقول أن الإنسان معجزة وحب، كان يلاحق مشاكلنا الشخصية ويحاول حلها، قال  لنا مرة أن غزة أجمل مدن الكون، كان يتفادى المس بنقاط ضعفنا،  مرة رأيناه يخرج من الصف ويسقط دمعتين خلف النافذة ثم يعود إلينا يضحك".

أيها الأب، أيها المحب، قل لنا كلمة من مكانك الآن، اضحك علينا بصوتٍ عالٍ، اسخر منا، يا أجمل وأذكى صائغي الأسئلة

الشهداء قصص وأسئلة، آه علي يا أخي وصديقي: أحبك في الوطن  القاتل وفي الله العظيم، وفي غزة المجنونة، ضع لي أسئلة صعبة، لا أريد أن أخرج من قاعة الامتحان بثقة الذي يعرف كل شيء، أنا الذي لا أعرف أي شيء عن كل شيء. أريد أن أصفن طويلاً يا جبّار السؤال، أريد أن أسقط على الأرض صمتًا وعجزًا، الإجابات مرمية في الطريق يا صديق، كما المعاني كما الموت، كما الشهداء، هبني سؤالاً لأرتمي على شاطىء الخرس، أنا طويل اللسان، ابن الوطن الغارق في الإجابات، الوطن المسكين الذي يظن أن الأسئلة أصغر من قامته، وأن كل شيء مفهومٌ وطبيعي، يا صاحب الابتسامة الحلوة، أيها الأب، أيها المحب، قل لنا كلمة من مكانك الآن، اضحك علينا بصوتٍ عالٍ، اسخر منا، يا أجمل وأذكى  صائغي الأسئلة، كم مرة قلت لطلابك قبل الامتحان بثوان: "لا تستعجلوا، فش حدا بطارد فيكم، تمهلوا، تأملوا". قل لنا كذلك حذرنا من الاستعجال في الإجابة يا أستاذنا، أستاذنا الذي يتوقع الاجابات، يتوقعها صعبة وصادمة ومراوغة ومفاجئة.

الشهداء قصصٌ وأسئلة، وجدوا الجثة، ولكن أين ذهبت أسئلة أخي وصديقي الشهيد علي عبد الجواد التي كتبها لطلاب التوجيهي الذين يعطيهم دورات تقوية في اللغة الإنجليزية قبل أن يموت تحت أنقاض البرج بدقائق؟

صارت حكايته؟ طارت في الهواء؟ سافرت إلى العالم؟ سبقته إلى بيته الجديد؟ أهدت روحها لطلابه وطالباته؟

ضع دائرة حول الجواب الصحيح: التعريف الدقيق للفلسطيني الجيد: 1. من يموت باستمرار، 2. من يسافر باستمرار، 3. من  يخاف باستمرار، 4. من يموت فجأة ويترك خلفه  قصة وسؤالاً يسبقان الصاروخ.


اقرأ/ي أيضًا:

"يمة".. صرخة أسير فقد والدته للأبد

زقاق المخيم لن يضج بفطبول محمد أيوب بعد الآن

ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟

دلالات: