30-أغسطس-2021

هناك شيءٌ ما، على غير العادة، دفعني لزيارة منطقتي "التواني" و"مسافر يطا" اللتين تبعدان عن مدينة الخليل ما بين 14 – 24 كيلو متر، وتبعدان عن مدينة جنين -حيث أسكن- أكثر من 200 كيلو متر. لقد كانت هذه المنطقة في خاطري، بمثابة مكان يستحق الزيارة، لكن فعل الزيارة ظل مؤجلاً لأسباب كثيرة: ربما بعد المسافة، أو عدم وجود أصدقاء من تلك المنطقة. فهي منطقة تستحق أن يشد إليها الرحال، وقد تضاعف ذلك بعد تجوالات كثيرة في منطقة مطلات البحر الميت، كما أن حضورها الدائم في وسائل الإعلام -بصفتها مكانًا مهددًا ومحاصرًا من قوات الاحتلال- ضاعف من رغبة الزيارة.

أهلها ينظرون لمناطقهم على أنهم قرى حتى لو كانت صغيرة العدد، طالما تقدم لمدينة الخليل أكثر من 60% من نتاج الحليب والجبن واللبن والزبدة ومشتقات الثروة الحيوانية

طوال طريق العودة من "المسافر" حتى جنين، حاولت مرارًا تذكر وترديد أسماء هذه القرى والخرب الـ22 التي تقع على هضبة شرق بلدة يطا جنوب مدينة الخليل. كنت أكرر كتسبيحة: التواني، الفقير، جنبا، المركز، الحلاوة، خربة الفخيت، خربة التبان، خربة أصفي (الفوقا والتحتا)، ومغاير العبيد، البقلة، الطوبا، وشعب البطم، بير العد، فواويس، خربة المقعوارة، الركيز، خلة الديب، صارورة، وطوبا، والمجاز.

قرى لا خرب

وتساءلت مرارًا: هل يحفظ المسؤولون أسماء هذه "القرى" كما يطيب للأهالي ذكره والتأكيد عليه، فهم يرفضون كلمة "خرب" أو "مغاور"، وينظرون لمناطقهم على أنها قرى حتى لو كانت صغيرة العدد طالما تقدم لمدينة الخليل أكثر من 60% من نتاج الحليب والجبن واللبن والزبدة ومشتقات الثروة الحيوانية.

الزائر الجديد لن يتوقع بُعد المكان ولا المدى الذي يتيحه لك، فنحن الذين أنتج الحصار حصارًا لمجال رؤيتنا وخيالنا، فالمدى الواسع يمنحك رؤية النقب وتحديدًا مدينة "عراد" في بئر السبع، ومدينة الكرك الأردنية وما حولها. وكنا كلما نصل لنقطة نظن أننا قد وصلت "المسافر المنشودة"، لكن مستقبلينا يخبروننا أنه ما زال أمامنا المزيد من المدى والطرق الوعرة، حيث التلال المتلاصقة نصف القاحلة بفعل موسم مطري ضعيف لهذا العام، والتي لا يقطعها إلا طرقٌ ترابيةٌ فتحت بفعل عجلات جيبات رباعية الدفع والتركتورات الزراعية وخطوات فلسطينيين أكسبتهم الشمس سمرة البشرة.

ماذا رأيت؟

رأيت من ضمن ما رأيت ماذا يعني في عيون الأهالي أن يأتي زوار من شمال الضفة الغربية ويطرقون باب "الأهالي في مسافر يطا"، ويقولون لهم: "نحن معكم". وشعرت تمامًا ماذا يعني أن تدب الحياة بحضورٍ من غير الطلبة وأهاليهم في ساحات مدرسةٍ بسيطة، فيما تقابلها مستوطنةٌ صغيرةٌ على رأس تل مجاور مزودة بكل مقومات الحياة.

هناك تمامًا يمكن أن تُدرك ماذا يعني أن تأتي لتقديم القليل من المساعدة، فيما هناك دولة احتلال كاملة تدعم المستوطنات التسعة التي تتبعثر في المكان

هناك تمامًا يمكن أن تُدرك الفرق بين أن تأتي للمكان من عدمه، وماذا يعني أن تأتي لتقديم القليل من المساعدة، فيما هناك دولة احتلال كاملة تدعم المستوطنات التسعة التي تتبعثر في المكان وتحاصر الأهالي وقراهم الصغيرة.

اقرأ/ي أيضًا: المقاومة جدوى مستمرة: بيتا نموذجًا

رأيت كم أن الأهالي يستشعرون غياب النظام السياسي بشكل عام، هناك حضور مهم تقوم به التربية والتعليم عبر نموذج "مدارس الصمود والتحدي" وأغلبها مدارس جديدة نسبيًا، وهي فعليًا تمارس مهمات جليلةٍ ربما لا يضعها النظام السياسي في حسبانه ولا يدرك عمقها.

قبل أن تصبح المدارس الـ 12 في منطقة المسافر أمرًا واقعًا، كان يضطر الطلبة للانقطاع عن أهاليهم وعائلاتهم كي يسكنوا في مدينة يطا عند أقارب لهم، فيما تبقى عائلاتهم في منطقة المسافر، وهو أمر شكل لسنوات سببًا للانقطاع عن التعليم ومشاكل اجتماعية بفعل البعد عن الأهل.

رأيت من ضمن ما رأيت أنه لا مستقبل لدولة فلسطينية -التي يقول الخطاب الرسمي أننا نناضل من أجلها- من دون "مسافر يطا"، تمامًا كما هي الأغوار الفلسطينية التي تنال اهتمامًا أكثر من منطقة المسافر، وهو اعتقادٌ أخبرونا به هناك، ويحتاج لبحث ودراسة وفحص. تلك المساحات الشاسعة على وسع المدى هي خزانٌ من الأراضي الممتدة تتسع للمصانع والمدن الصناعية والزراعة والمدن الجديدة.

لن يدرك المسؤول -الذي يجلس في مكتبه في رام الله ولم يزر هذه المنطقة- أهميتها ولا دلالة إحكام الاحتلال السيطرة عليها. فمن يدرك ذلك سيضعها ضمن تصور استراتيجي متكامل وليس في باب إغاثي يبدأ ليتوقف ولا نعلم متى يعود. لقد أخبرنا الأهالي أن السلطة قررت منح كل رب أسرة راتبًا شهريًا مقداره ألف شيقل، لكنه توقف منذ زمن! وهو أمرٌ يعكس طبيعة نظر السلطة لدورها القاصر في هذه المناطق.

أخبرنا الأهالي أن السلطة قررت منح كل رب أسرة راتبًا شهريًا مقداره ألف شيقل، لكنه توقف منذ زمن! وهو أمرٌ يعكس طبيعة نظر السلطة لدورها القاصر في هذه المناطق

لن يدرك المسؤول البعيد عن هذا المكان حقيقة الحياة هنا، مثلما لن يدرك صحفي طبيعة الصراع على هذه المنطقة من دون أن يزور المكان ويتحدث مع ساكنيه.. "فالسمع ليس كما النظر" كما يقال.

اقرأ/ي أيضًا: كيف نفهم رغبة الفلسطيني بالتصوير؟

رأيت أن شبكة الاتصالات تغيب هناك! وليس هناك ما يبرر ذلك السلوك والعجز سوى جشع الشركات المحلية، فالخدمة تقدم للمواطنين إذا تحقق شرط الربح. ولا أدرى كيف لا تجبر وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الشركات الفلسطينية الخاصة على توفير الخدمة.

رأيت هناك كيف يذهب أطفال إحدى القرى إلى مدرستهم من وسط مستوطنة، في وقت محدد، وكيف يصر الطلبة على سلوك طريق المستوطنة كي يثبتوا حقهم في المنطقة.

رأيت الجيب رباعي الدفع الذي تم توفيره من الجهات الفلسطينية ليقوم بمهمة جمع التلاميذ صباحًا وتوصيلهم للمدارس البعيدة عن مراكز سكنهم. وفكرت في هذا الجيب القديم نسبيًا كثيرًا، حيث كان يستخدم قبل فترة الانتفاضة الثانية (سبتمبر 2000) بصفته سيارة عسكرية مهمة و"عليها العين" لدى العديد من الأجهزة الأمنية، وقلت في نفسي ألا يستحق هؤلاء الطلبة سيارات أحدث قليلاً وأكثر عددًا؟ ولن نقول بطبيعة الحال كتلك السيارات التي يتنقل بها المسؤولين أمامنا يوميًا!

تحدثنا مع الحجة "عربية/ فاطمة" التي عاشت في مغارة لأكثر من 35 عامًا، ولا تطلب من المسؤولين سوى أن يتم تثبيت ابنتها في مهنتها كمدرسة. تلك الحجة التي تبدو أن قصتها من قصة هذا المكان وأهله، فيما تعكس ملامحها صعوبة الحياة وقساوتها هناك.

الحجة "عربية/ فاطمة" عاشت في مغارة لأكثر من 35 عامًا

طريقة حياة

على سفح إحدى التلال، وتحديدًا في منطقة "مجاز" المجاورة لمدينة الكرك الأردنية، أنعشنا الهواء البارد على غير عادة الجو هناك في مثل هذه الأيام. وبالقرب من المدرسة هناك مغاور قديمة تتممها بيوت بسيطة من الصفيح والقماش، تعيش أسر ترى أن هذه هي طريقة حياتها وهي تناسبها تمامًا. ولا يتعلق الأمر بالغني والفقر، إنما يتعلق باختيار نمط الحياة، فهذا قرار الأهالي في الحياة، إنه أمر يخصهم. لكن ما يخص نظامنا السياسي يبدو غائبًا تمامًا، حيث تغيب أي أفكار خلاقة تدعم بقاء هؤلاء رغم إجراءات الاحتلال وممارساته اليومية وتضيقه الذي يتضاعف.

ما يخص نظامنا السياسي يبدو غائبًا تمامًا، حيث تغيب أي أفكار خلاقة تدعم بقاء هؤلاء رغم إجراءات الاحتلال 

فمنذ السبعينيات أعلنت سلطات الاحتلال المنطقة بموجب قرار عسكري رقم 918 منطقة عسكرية، وهو الأمر الذي تضاعف عام 1999، حيث استشرس الاحتلال في ملاحقة السكان بقرارات الإخلاء وهدم المساكن، و"تسيدت" حول المنطقة مستعمراته التسع.

شاهد/ي أيضًا: فيديو | جبال القدس تعود لأصلها

في الطريق من بلدة النواجعه نحو المدرسة الثانوية في المسافر، هبطنا بالجيبات الرباعية وتحدثوا لنا عن الموسم الذي لم يكن موفقًا بسبب شح المياة، حيث قام الأهالي بتحويل حقول القمح والشعير إلى ساحات للرعي، وهذا يجعل السكان يعانون معاناة مضاعفة هذا العام. فبحسب معلومات دائرة الأرصاد الجوية الفلسطينية، فإن نسبة الهطول هذا العام في منطقة يطا لم تتجاوز 74%، بمعدل هطول 290 ملم، وهذا يعني أنها في منطقة المسافر أقل من ذلك، حيث يؤكد الأهالي أنها لم تتجاوز 60% من نسبة الهطول السنوية.

منطقة للنهب والفراغ

حدثنا رئيس مجلس قروي "مسافر يطا" نضال يونس عن جهوده، وتحدث طويلاً، وبدا لنا أن جهات رسمية كثيرة لا تستمتع إليه، وأخبرنا أنه قدم مشاريع كثيرة للمؤسسات الفلسطينية الرسمية من أجل دعم صمود الأهالي. ومن ضمن ما قدمه مشروع مصنع أسمنت، حيث استخف به المسؤولون، هم نفس المسؤولون الذين يصادقون على أن تكون مشاريع مثل مصنع الأسمنت في منطقة زراعية مثل طولكرم (قبل أعوام)، وحديثًا محاولة أن يكون مصنع الأسفلت في بلدة بيرزيت.

وتساءلت عن سبب تصميم جهات فلسطينية على إقامة مشاريع صناعية ثقيلة في مناطق مأهولة وزراعية، فيما تترك منطقة المسافر بمداها الشاسع للنهب والفراغ؟ والجواب معروف، فرأس المال جبان، ولا يريد المخاطرة في مناطق تحمل تصنيف "ج".

كيف علينا أن نفكر في هؤلاء السكان الذين يتجاوزن 1300 مواطن، ويفترشون منطقة بمساحة تزيد على30 ألف دونم؟ كيف يكون هناك شعارٌ سياسيٌ واقتصاديٌ تجاه هذه المنطقة؟ وكيف يترجم هذا الشعار فعلاً حقيقيًا (لا إغاثيًا) على أرض الواقع؟ فبقاء هؤلاء السكان في تلك الأماكن ضمان مهم لنا، نحن جميعًا، لا يمكن أن يكون لحلمنا أي مستقبل بدون هذه الأراضي الممتدة.

منطقة المسافر تعكس مقولة "من يعيش على أرض يمتلكها". غير أن هذه المسلمة التي تواجه إجراءات الاحتلال لم تعد كافية. وفي حال استعاد النظام السياسي الفلسطيني إيمانه أن كل فلسطين لنا بخريطتها التاريخية، قولاً وفعلاً، يمكن أن تضمن عندها أن تكون منطقة "مسافر يطا" جزءًا من حلمنا بدولة محاصرة!، تمامًا كما هو الحال مع الأغوار، من دون ذلك لا يبدو أن هناك أملٌ حقيقيٌ إلا بمن يعيش هناك، الناس البسطاء الذي تخطئهم عين المسؤولين وسياساتهم دومًا.


اقرأ/ي أيضًا: 

الاستيطان في مشاريق نابلس: قصة بدأت باكرًا

الشيخ جراح: قصة معركة مع الاستيطان في قلب القدس