31-مارس-2018

الشهيد محمد أبو عمرو - صورة أرشيفية

منذ اليوم، سوف لن يسمع البحر فضفضات الشوق بين براء ومحمد، ولن يلتقط الموجُ صورة لدمعاتهما معًا إذا ما تساقطت لهفة لوجه أمٍ تبتسم قبل أن تُسلّم الروح.  منذ اليوم، سيُصادق براء جرحًا آخر، ويبكي وحده هناك، فوق رمل الشاطئ، أمه ومحمد.

محمد ابن عائلة أبو عمرو (عائلة أصولها غزّية متجذّرة)، أحد شهداء اليوم الأول من فعاليات مسيرات العودة الكبرى، فنّان البحر، وخطّاط رسائل الوطن، وأما براء، فهو براء الحلبي صديقه وجاره الذي جمعته على حبه المحنة؛ حين فقد براء أمه عام 2014، فجاء محمد يواسيه وهو الذي ذاق طعم الفقد قبله، فبكيا معًا.

الفنان محمد أبو عمرو، أحد شهداء مسيرات العودة الكبرى، قال لصديقه قبيل ارتقائه: "راجعين راجعين ما في كلام"

الجمعة، 30 آذار/مارس 2018، انتهت قصة براء ومحمد على أعتاب الحدود الشرقية للشجاعية، شرق قطاع غزة، حيث خيامٌ "للمؤمنين بحق العودة" هناك نُصِبَت، حين نادى براء (ابن مدينة بئر السبع المهجّر) صاحبه قبل أذان الظهر بساعة: "محمد.. لا تقترب من السياج! هناك قنّاصة"، ليجيبه محمد ضاحكًا بعد أن التقط صورة "سيلفي" لنفسه والحشود خلفه تتوافد: "اسكت يا براء، راجعين راجعين اليوم، ما في كلام".

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | أبو ثريا.. هو أنت ثانية ألم أقتلك

سكت براء، التفت يمينًا يتحسس أصدقاءه، ثم ضاع بمسافة "رمشة عين" بين همهمات المحتشدين وصراخهم. "كل ما استوعبت أنني أسمعه في تلك اللحظة أصواتًا تنادي: إسعاااااف، هوى محمد بين ذراعَي مفترشًا أكُف عشرات الشبان الذين تطوعوا لحمله. وهوى قلبي متضرعًا لله يطلب لُطف القضاء" يصف براء المشهد لـ الترا فلسطين. كان هذا قبل أقل من ساعة على إعلان اسم محمد أبو عمرو شهيدًا.

عاد براء بذاكرته إلى يومٍ واحدٍ سبَق، حين صلّى مع محمد ابن الـ (26 عامًا) في المسجد المجاور لداريهما صلاة العِشاء، وجلسا مع مجموعةٍ من الصحب بعدها يتساءلون أيهم سيخرج غدًا في مسيرات الجمعة؟ محمد كان أول رافعي الأيادي، بل وتطوَّع لتنسيق الأمر من تلقاء نفسه حين قرر أن التجمع سيكون عند باب بيته غدًا، تمام السابعة صباحا.

أحد الجلوس أراد أن يداعبه فقال له: "والله لو إنو إلك بيارات في المجدل ويافا، ما كنت راح تتحمس هيك"، بالإشارة إلى أنه ليس لاجئًا بل من عائلة غزيّة. فإذا به يرد بِغُل رغم يقينه بأن صاحبه يمازحه فقط: "فلسطين وقفٌ لكل المسلمين أينما ارتحلوا، فما بالك وأنا فلسطيني، وأعيش هنا، إذاً فالتحرير واجب، والعودة حق".

[[{"fid":"71208","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":480,"width":525,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

تمام السابعة بدأ الصحب يتسرّبون من تحت بطانياتهم إلى بيت محمد منتظرين اكتمال النصاب، فلما حضر براء حان وقت المُضي. الطريق من بيت أبو عمرو الواقع في نهاية شارع المنطار شرق الشجاعية "ناحية القبة"، حتى موقع خيام العودة تستغرق مشيًا على الأقدام سبع دقائق، أمضاها "محمد" بالحديث عن آخر عملٍ فنّي خطّه بالرمل على شاطئ بحر غزة قبل يومين: حين كتب، #أنا_راجع، وكيف أنها صارت أيقونة تناقلتها الصفحات الإخبارية للدلالة على فعاليات مسيرات العودة الكبرى، والأهم من هذا كله: "كيف كان يتمنى أن تشفع له هذه الرسائل عند الله إذا توفاه يومًا" كما قال.

قبل يومين من استشهاده، كتب محمد أبو عمرو على رمل البحر "أنا راجع"، فصارت أيقونة للدلالة على مسيرات العودة الكبرى

جثمان محمد شُيِّعَ من مسجد الشهيد محمود أبو هين القريب من بيته إلى حيث مقبرة المنطار، وهناك، كانت المقبرة قد ضاقت بموتاها فأُغلقت، لولا أن والده قال: "يُدفن هنا، في نفس قبر أخيه الشهيد". وأخوه الشهيد كان قد ارتقى عام 2008.

اقرأ/ي أيضًا: عدنان الغول.. نصف المقاومة الفلسطينية

أصبح في قلب والد محمد اليوم ثلاثة خدوش: زوجةٌ وشهيدين، كان يحاول أن يطبّبها في سُرادق عزاء محمد بــ"مرهم الحمد".

بين حشود المقبلين لمواساته، يجلس الحاج نعيم أبو عمرو (58 عامًا) برفقة أبنائه الثلاثة، وليس ببعيدٍ يجلس براء الذي تعلم اليوم كيف يبكي دونما دموع. يراقب والد محمد ويتكئ على صبره، فيما الأب يواجه كل المصافحين بعبارةٍ واحدة: "كل أولادي فداء لتراب الوطن. وأنا فداء".

كان آخر موقفٍ جمع الأب بابنه مساء الخميس، عشيّة مسيرات العودة الكبرى، بعد أن عاد من جلسة الترتيب للمسيرة؛ حاملاً بين يديه صحن فولٍ مدمّس اشتراه من محلٍ قريب، فطلب منه أن يشاركه تناوله، ولما رفَضَ خشية أن يُتعب الأكل ليلاً معدته، يقول الأب لـ الترا فلسطين: "لم يقل شيئًا، ابتسم ابتسامة غريبة، كلما تذكرتُها الآن يتصلّب شعر جسدي. كانت تحمل من الرضا ما لم أره على وجه مخلوقٍ قط".

في صبيحة اليوم التالي (جمعة العودة) خرج محمد دون أن يقابله أبوه، وهو الذي لا يخرج من البيت دون أن يبلغه بوجهته، ليراه في المرة التالية، الأخيرة، شهيدًا في طريقه إلى قبره. "لعله ودّع وجهي النائم.. من يدري؟ يتساءل الحاج نعيم.

كان محمد أبو عمرو ينحت أعمالاً فنية يخطّها بترتيب فوق رمل البحر، ثم يسويّها بالأرض لئلا تشوهها أقدام العابرين

كان محمد يمضي ساعاتٍ طويلة في مناطق متفرقة من شواطئ قطاع غزة، ينحت أعمالاً فنية يخطّها بترتيب فوق رمل البحر، يتأكد من أن الرسالة التي تتضمنها وصلت إلى العالم، فيسوّيها بالأرض لئلا تشوّهها أقدام العابرين ممن لا يقدّرون قيمة الفن.

يقول والده: "أول لوحةٍ رملية أنجزها محمد على الشاطئ كانت قبل عامين، عندما كتبَ: أمي"، يعلّق براء: "كان محمد قد صرّح لإحدى الصحف مرةً أنه فعل ذلك كي ينتبه كل شخص يراها إلى أنه يمتلك الجنة في أرض الله وسمائه لو كانت أمه على قيد الحياة".

"ستفرج"، "صبرًا غزة"، "القدس لنا"، "الحرية"، وغيرها الكثير من الرسائل التي أراد محمد لها أن تخرج من حدود غزة الجريحة لتصل إلى العالم الأصم بطريقةٍ أخرى "يمكن يفهمها"، على حد تعبيره، غير الشجب والاستنكار والمطالبات والدعوات والتنديد.

كانت آخر رسائله #أنا_راجع، نشرها على صفحته الخاصة عبر موقع "فيسبوك" كما جرت العادة قبل يومٍ واحدٍ من ذكرى يوم الأرض. كان قد أخبر براء أنه صمّمها لينقل يقينه بعودةٍ قريبة لكل المهجّرين الفلسطينيين في كافة أصقاع الأرض، بل و"لينسف تلك القاعدة الوهمية التي تقول إن هناك فرقًا بين المواطن والمهاجر في غزة".

لك أن تتخيل قارئ قصة الشهيد محمد أبو عمرو، قلب براء في هذه اللحظات يرتعش، وهو يستمع إلى صوت آيات القرآن تُتلى على روح محمد، وتباغته في نفس الوقت فجأة عبارة محمد الأخيرة وضحكاته حين نهاه عن الوقوف في طريقه نحو السياج بالقول: "راجعين راجعين يا براء.. ما في كلام".

[[{"fid":"71209","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":319,"width":480,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

[[{"fid":"71210","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":386,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

[[{"fid":"71211","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":480,"width":490,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]


اقرأ/ي أيضًا:

هكذا أتذكر الأستاذ نزيه

أبو هنود صياد النخبة الإسرائيلية

العياش في حارتنا