30-ديسمبر-2016

حسنًا، ستبدأ القصة في إحدى المستشفيات في فلسطين. الطبيب الذي سيجرى لك العملية لن يبدو واثقًا من نتائجها، وسيؤكد لك ولأهلك "أن كلّ شيء بيد الله." ستخرج من العملية إلى عتمتك الدائمة، ليس في هذه الجملة أي إشارة إلى خطأ طبيّ أو لوم على المستشفى أو الطبيب، بل هو مجرد تعبير عن اللون الجديد الذي سيسكن العين.

عند البحث عن إحصائيات تتعلق بالكفيفين في فلسطين، فإن أخر إحصاء كان عام 2011

في هذه القصة لن نحدد أسماء الأشخاص ولا الأماكن، لأنّ هذا ليس مُهمًّا. ولكن لنكُن واثقين أنّها قصة واقعية. عند الحديث عن الثقة، ستخطر على بالك العتمة وكيف ستتعامل معها، وهي التي تحيطك من كل جهة، وهُنا يأتي دور الطبِّ النفسيّ، لن يذكر الطبيب أي شيء من هذا القبيل، ولن ينصح عائلتك، ولن يرشِّح لهم أسماء أطباء أو مؤسسات، أو برامج إرشاد وتوعية نفسية خاصة بالكفيفين. ولأن أهلك أناس بسطاء، ولأنهم لا يزالون في وقع الصدمة التي أصابتك، فلن يخطر لهم إلا ما هو مهم، وهو نقلك إلى مستشفيات الأردن، بوصفها محطة الأمل الأخيرة للفلسطينيين.

بعد فترة قصيرة من مكوثك في البيت، وساعات طويلة من اليأس والنوم، ستعود إلى المدرسة فهذا حقُك وفقًا للقانون، فالمادة العاشرة من قانون رقم (4) لسنة 1999 بشأن حقوق المعوقين تنص على "ضمان حق المعوقين في الحصول على فرص متكافئة للالتحاق بالمرافق التربوية والتعليمية، وفي الجامعات ضمن إطار المناهج المعمول بها في هذه المرافق".

الكتب متوفرة بلغة "بريل"، ورغم أنك تدرس مثل زملائك، ورغم أنك نشيط ومجتهد، إلّا أنّك لا تعلم لماذا يستخف الجميع بذهابك للمدرسة، ويتحدثون عن دراستك بوصفها تمضية وقت لا بأس بها، وأنها "تغيير جو" أفضل من البقاء في البيت.

اقرأ/ي أيضًا: نظّارتي الطبيّة.. صديقتي التي أكره!

في الشارع لن تصدق أنّك لن تستطيع السير بمفردك بعد الآن، ولكنّك حقًا لن تستطيع. ورغم أن الفصل الثالث من القانون الخاص بالمعوقين، وتحديدًا المادة الـ12 بعنوان (مواءمة الأماكن العامة للمعوقين)، تنص على "تهدف الموائمة إلى تحقيق بيئة مناسبة للمعوقين تضمن لهم سهولة واستقلالية الحركة والتنقل والاستعمال الآمن للأماكن العامة"، إلّا أنّك لن تستطيع أن تكون مستقِلًا بعد الآن، ولن تشعر بالأمان دون أن تكون برفقة أحد تثق به. سيخفف عنك أهلك ذلك بقولهم إنّ الشوارع والأرصفة في بلادنا غير ملائمة للذين يبصرون أيضًا، فلا تتضايق.

نسبة الإعاقة (دون تحديد نوعها) في الأراضي الفلسطينية بلغت 2.7%.، وفق بيان الإحصاء الفلسطيني عام 2016

في الجامعة بإمكانك أن تدرس أي تخصص ترغب به، وسُتعفى من المواد التي تتطلب الرؤية مثل الرياضيات والحاسوب مثلًا، ولكن في المقابل، عليك أن تجد متطوعين يسجلون لك الكتب والمناهج صوتيًا لتستمع لها، فهذه هي طريقتك الجديدة في الدراسة، الاستماع للتسجيلات الصوتية وتكرارها بغرض الحفظ والفهم. وحديثًا، وعملاً بالبند الثالث من المادة العاشرة من قانون حقوق المعوقين الفلسطيني، والتي تنص على ضرورة "توفير المناهج والوسائل التربوية والتعليمية والتسهيلات المناسبة" فقد بدأت الجامعات الفلسطينية بتطوير العمل في مختبرات الحاسوب الخاصة بالكفيفين، لتمكين طلابها ذوي الإعاقات البصرية من اللحاق بزملائهم المبصرين في مجال الحاسوب، والاستفادة من الخدمات والإمكانيات التي يوفرها. كما تساهم هذه المختبرات في طباعة الكتب الجامعية التي قد تحتاجها بلغة "بريل" وفقًا لإمكانياتها، وحسب توفر الدعم والتمويل اللازم لاستمرار عملها. ولكن هذا يبدو أفضل من الاعتماد كليًا على التسجيلات الصوتية كمصدر وحيد للمذاكرة. أليس كذلك؟

اقرأ/ي أيضًا: الفلسطينيون يتخطّون الـ12 مليونًا

هل تحب القراءة؟ لا يمكنك أن تجد الكثير من الكتب بلغة "بريل" في المكتبات العامة، وهنا ستحتاج بعضًا من الأصدقاء الطيبين الذين يحبون القراءة ويملكون الوقت والرغبة في أن تتحول جلساتكم إلى حلقات لقراءة الكتب ومناقشتها.

في محال الملابس ستحتاج رفيقًا قويّ الشخصية، لا يسمح لنظرات الشفقة من صاحب المحل والزبائن الآخرين أن تتحول إلى كلمات تنغص عليك رغبتك في شراء ملابس جديدة. وعلى رفيقك أن يكون قويًا أيضًا ليحميك من أي نوع من أنواع الاستغلال الذي قد يُمارس عليك خلال التعاملات المالية، أو الاستخفاف في رغبتك بلون معيّن أو قماشة محددة، بوصف هذه الأمور كماليات لا داعي لها بالنسبة لشخص لا يجيد استخدام المرايا، ولا يعرف كيف يبدو شكله كُلمّا تقدم به العمر.

ستؤلمك هذه القصة وستشعر كم أنت محظوظ أنّها ليست قصتك. وأنّ هذه الحياة ليست حياتك، فأنت بمجرد  أن تقرأ عنها تشعر بالضيق. وعندما تدرك أنك بعيد عنها ستتنفس الصعداء، وتحمد الله على نعمة الصحة. وعلى قلة حاجتك للناس وللحكومة. ففي بلادنا يلعن من فقد البصر العالم مرتين، مرة لأنه لا يستطيع أن يرى، ومرّة لأنه يحتاج التعامل مع مؤسسات الدولة ووزارتها أكثر. ورغم أنّها لا تقدم لك شيئًا يذكر، إلا أن المساعدات المالية البسيطة التي قد تحصل عليها كل شهرين من وزارة الشؤون الاجتماعية ستكون أفضل من لا شيء. هكذا ستفكر وأنت تسمع قصص "الأصحاء" المتعلمين الذين تتلقفهم البطالة مباشرة بعد تخرجهم من الجامعة.

في الثالث من كانون الثاني/ ديسمبر، يحتفل العالم بيوم المعاق العالمي

لطالما بدت فكرة الاحتفال وتخصيص أيام من السنة لفئة معينة، فكرة غير مهمة وغير ضرورية بل فيها تبخيس من الفئات المخصصة لها، بوصف المعاملة الخاصة هي نوع من الانتقاص، مهما كان مصدرها لطيفًا ونقيًا. ولكن ومع الوقت تستسلم للفكرة و تتقبلها بشكل أفضل، وتتغير نظرتك للموضوع بحيث تعتبر أن تخصيص الأيّام العالمية هذه أمرُ لا بأس به، وأنه ربما يأتي كاعتراف عالمي بالذنب أو التقصير تجاه من يحتاجون مزيدًا من الاهتمام: الأطفال، الأرض، المرأة ، ذوي الإعاقة، وأشياء كثيرة يصعب تذكرها، ولكنّها تشترك في كونها مهمشة.

المهم أنه عند البحث عن إحصائيات تتعلق بالكفيفين في فلسطين، فإن أخر إحصاء فلسطيني كان عام 2011، ووفقًا لما أعلنه مركز الإحصاء الفلسطيني في بيانه الصحفي بمناسبة يوم المعاق العالمي لعام 2016، فإن نسبة الإعاقة (دون تحديد نوعها) في الأراضي الفلسطينية بلغت حينها 2.7%.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"إلهام فلسطين"..محاولات لخلق بيئة تربوية أفضل

"المدنيات".. نكبة تعليمية في فلسطين

بالصور: الببغاء في فلسطين مهاجرة.. ما هو أصلها؟