24-يونيو-2017

(Photo by Ami Vitale/Getty Images)

«وهل هناك أبلغ وأفصح من فعلِ الشهيد».

باسل الأعرج

ليست العمليات الفردية الفلسطينية التي نشهدها منذ عدة سنوات إلّا الوجه الآخر لغياب التنظيم السياسي الفلسطينيّ في الضفة الغربية. فبعد هزيمة حزيران، مارس الفلسطينيون السياسة داخل منظمة التحرير الفلسطينية أو خارجها عبر تنظيماتهم السياسية، التي كانت ناجحة بتأطير جهودهم الفردية ضمن مشاريعها التعبوية السياسية. واستمرّ التنظيم السياسي الفلسطيني عنوانًا حصريًا للسياسة حتى ما بعد هزيمة انتفاضة الأقصى حين شنّت إسرائيل حربها على التنظيمات الفلسطينيّة، ورضيت السلطة الفلسطينية بتفكيكها دون خلق إطاراتٍ تنظيمية أخرى يمارس عبرها الشباب السياسة.

العمليات الفردية إذًا ليست سوى انفلاتًا لطاقاتِ الشباب التي طالما احتضنتها الفصائل الفلسطينية باختلاف مرجعياتها الأيديولوجية والسياسية، وهي أيضًا في نفس الوقت، البديل غير الواقعي لغيابِ أيّ بديلٍ واقعيّ، في ظلّ أزمة انسداد الآفاق السياسية التي وصلت إليها الحركة الوطنية الفلسطينية بشكلٍ عام، والقيادة الفلسطينية بشكلٍ خاص، أمام السياسات الاستعمارية لنظام الفصل العنصريّ الإسرائيليّ.

​هذا الشكل من أشكال العمل الفردي، بالإضافة إلى خلايا تنظيمية ذات طابع بدائي، هي التي أجبرت نخبة ما قبل النكبة على اللحاق بالثورة بعد أن أضاعت الوقت بانتظار "إنصاف" الإنجليز.

غير أن تفهّم السياق السياسيّ للعمليات الفردية ومشروعيتها ودوافع منفذيها هو أمر، والعمل على أسطرتها وترميزها وتقديمها على أنها نموذج فعّال وجديد للمقاومة هو أمرٌ آخر. والحقيقة أنَّ المقاومة الفردية ليست جديدة لا في تاريخ الشعوب المُضطهدة، ولا في التاريخ النضالي للشعب العربي الفلسطيني. ففي تاريخ الحركات الاحتجاجية، هناك مئات الدراسات التي تناولت وشرّحت الأساليب التي قاوم من خلالها الأفراد الاستعمار، وظلم السلطات المركزية ما بعد الكولونيالية. وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، برز اسم عالم السياسة والانثروبولوجيا، وصاحب كتاب «أسلحة الضعفاء»، جيمس سكوت، الذي اشتهر بتحليل أساليب واستراتيجيات المقاومة لدى الضعفاء، أمام جبروت السلطات المركزية المستبدة التي لا ترحم. وعلى خطى سكوت، واصل مئات الباحثين دراسة أساليب مقاومة الظلم والاستعمار في دول الجنوب قديمًا وحديثًا، وبيّنوا حدودها وآثارها.

وفي التاريخ النضاليّ الفلسطينيّ، كان العمل الفرديّ نموذجًا أساسيًا في فهم مقاومة الفلسطينيين للانتداب البريطاني قبل النكبة، وهنالك العديد من المؤرخين الذين افترضوا أنَّ العمل الثوري الفردي كان مقدمةً للثورة العربية الكبرى عام 1936، وذلك بعد أن نبّه العديد من الفلّاحين الفلسطينيين عبر أعمالٍ فرديةٍ صغيرةٍ جريئة، مثل قطع الطريق، وشنِّ عملياتٍ ضد جنود الانتداب، واستهداف المستوطنين الصهاينة، واللجوء والتحصّن في الأحراش، أنَّ مقاومة سلطات الانتداب وإجبارها على أخذ مطالب أهل الأرض بالاعتبار، هو أمرٌ ممكن، بل وفعّال. والحال أنَّ هذا الشكل من أشكال العمل الفردي، بالإضافة إلى خلايا تنظيمية ذات طابع بدائي، هي التي أجبرت نخبة ما قبل النكبة على اللحاق بالثورة بعد أن أضاعت الوقت بانتظار "إنصاف" الإنجليز. غير أننا يجب أن نتذكر أنَّ هذا النموذج الذي يخصّ مرحلة ما قبل النكبة قد مضى، وصار من الصعب استعادته بسبب التطوّر الذي حصل في بنية المؤسسة الاستعمارية في فلسطين، وتغلغلها في كافة مناحي المجتمع الفلسطيني، وهو الأمر الذي أدركته التنظيمات الفلسطينية في الانتفاضة الثانية وطوّرت استراتيجياتٍ جديدة نقلت فيها المقاومة إلى داخل المدن وعكسته على تركيبة خلايا المقاومة المسلحة وهرميتها.

إنّ نموذج المقاومة الفردية دون غطاءٍ سياسي من مؤسسة صاحبة مشروع ذا أهداف سياسية، لم يعد ممكنًا في عالم اليوم، الذي لم يعد للفرد إمكانية للتحرك دون كيانٍ سياسي يجعل من حركته منطقية، ويعطي لفعله في عالم القوميات وما بعد القوميات معنىً سياسيّ. فالدولة اليوم- بشكلٍ عام- بأجهزتها الرقابية وبانتشارها في المجتمع، وبسياساتها الكولونيالية، وبرسوخها في النظام الدولي العالمي، مختلفة جذريًا عما كانت عليه في مرحلة الاستعمار الكلاسيكي. أما في الحالة الفلسطينية، فمن غير المفهوم كيف تقدم العمليات الفردية، نموذجًا يتجاوز ذلك الذي قدّمته التنظيمات الفلسطينية في الانتفاضة الثانية. بل إن نموذج العمل المسلح في الانتفاضة الثانية، على سلبياته كما اعترفت بذلك الفصائل المسلحة ذاتها، هو في الحقيقة أكثر ثراءً وأكثر تركيبًا، ولا يُقارن بتطوره وبتأثيره أصلًا ببدائية المبادرات الفردية التي نعاصرها اليوم، والتي من غير المفهوم أيضًا كيف يمكن أن تتحول إلى حركةٍ جمعية ذي أهدافٍ سياسية محددة (دعك من أن إسرائيل كانت قد نجحت في المحافل الدولية بمقاربة العمليات الفردية الفلسطينية بأحداث الإرهاب الفردية في أمريكا وأوروبا وهذا موضوع آخر).

ليس من الحِكمة ولا من الأخلاقيّة ترك الشباب ضحية خطاب شعبويّ تمجيديّ لأيّ شكلٍ من أشكال المقاومة مهما بلغت لا عقلانتيها

ليس من الحِكمة ولا من الأخلاقيّة ترك العديد من الشباب الفلسطيني ضحية خطاب شعبويّ تمجيديّ لأيّ شكلٍ من أشكال المقاومة مهما بلغت لا عقلانتيها، ومهما كانت مضرّةً حتى بفكرة المقاومة ذاتها. وليس لديّ أدنى شكّ بأن أغلبية المحللين الجادين يعرفون أنَّ هذا النوع العمليات ينزع الجدية أصلًا من المقاومة، وإن لم يؤلب المجتمع الفلسطيني عليها فإنّه يقابلها باللامبالاة، مقدّمًا بذلك خدمةً مجانيةً لأعداء النضال الشعبيّ الفلسطيني ضدّ الاستعمار، ومبّخسًا من دماء الشهداء الغالية.

إنَّ الخطاب الشعبويّ-الراديكاليّ، الذي يزايد بالوطنية، هو الوجه الآخر للخطاب السُلطويّ المهيمن، لا سيما وأنَّ منتجيه بالعادة، من صحفيين أو كتاب ومن نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي لا يدفعون ثمنه، على الرغم من أنَّ العديد منهم يعيش على تخوم الاشتباك مع العدوّ، ويمارس حياته بشكلٍ طبيعي دون أي مشاكل. ليست الراديكالية هنا نهجًا يلتزم به صاحبه مبدئيًا، بل هي أقرب إلى "حالة نفسية" لا علاقة لها بالمبادئ ويمكن قراءتها سيكولوجيًا وتفهّم أسبابها ودوافعها.

لقد شدد الشهيد باسل الأعرج في وصيته التي ظهرت بعد استشهاده على بلاغة فعل الشهيد. والحال أنّ لفعل الشهيد بلاغة بالفعل، ولكن ما يحوّل «البلاغيّ» إلى «سياسيّ» ليس الشهادة، بل السياسة. المؤسسة، بسلطتها الرمزية وبمواردها وبقدرتها على تعبئة الناس، هي صاحبة السلطة في قلب المجاز إلى حقيقة. الحركة السياسية هي من يقرر تحويل أفعال الأفراد إلى برامج، وليس العكس، ومن دون المؤسسة السياسية يبقى الأفراد وأفعالهم مجازات لغوية: مؤثرة وساحرة، ولكنّها ليست واقعية. بهذا المعنى، فإن من يريد أن يتجاوز المستوى البلاغي، أو لنقل المجازيّ، في فِعل الشهيد، عليه أولًا أن ينازع المؤسسة. وفي الحالة الفلسطينية، عليه أولًا أن يدفع السُلطة، أو الحركة الوطنية الفلسطينية، لتبني فعل الشهيد. من دون ذلك، من حقّنا أن نخشى من أن لا تكون دماء شهدائنا سوى مجازات على الإسفلت.


اقرأ/ي أيضًا:

فيديو | خالد نزّال.. الشعب يحمي شهداءه

هرتسيليا حبيبتي.. شعث وبلير ومصائب أخرى!

بين المقدس الفلسطيني والمدنس العربي.. عدمية سياسية