11-مايو-2017

مروان البرغوثي - صورة أرشيفية

لم ينل مُنتَج في العالم دعاية مجانية مثل تلك التي أخذها مطعم "كنتاكي ميدان التحرير" إبان ثورة "25 يناير"، إذ ارتبط اسم المطعم بساحة ميدان التحرير المشتعلة بثورة شعبية، وقد اشتهر عبر كلا الفريقين المتخاصمين، فقد كان في البداية مقرًا لراحة الثوار، ثم في الجهة المقابلة روّج الإعلام الحكومي إلى أن الثوار والمعتصمين يقومون بهذا التمرد ضد النظام من أجل وجبة دسمة ثمنها 20 جنيهًا تُقدمها لهم جهات مشبوهة! فظلَّ اسم مطعم الوجبات السريعة هذا يتكرر في معظم نشرات الأخبار العالمية على مدار أيام الثورة.

وربما عن صدفة مشابهة اشتهر مطعم كنتاكي في ميدان التحرير الواقع في العاصمة اليمينة صنعاء، الذي ارتبط هو الآخر بنشاط الثوار اليمنيين. وكلا المشهدين، سواء في مصر أو اليمن، أقلقا حركات المقاطعة التي كانت تنشط ضد المنتجات الأمريكية في الوطن العربي، كرد على احتلال العراق، ودعمًا للانتفاضة الفلسطينية. الآن انقطعت تلك الأصوات المقاطعة لأمريكا، بعدما اتسعت الرقعة عليهم وصارت البضائع الإسرائيلية ذاتها تخترق السوق العربي!

من النادر جدًا في التاريخ أن تجد أيًا من الأحداث والمشاهد الكبرى قد مرّت دون أن ترتبط بمُنتج أو ثروة

من النادر جدًا في التاريخ أن تجد أيًا من الأحداث والمشاهد الكبرى قد مرّت دون أن ترتبط بمُنتج أو ثروة، ليس أولها أن تُسوّق قدسية فلسطين لدى الصهاينة تحت شعار ومُنتج "أرض اللبن والعسل"، وليس آخرها "حرب الأفيون"، ولا اكتشاف أمريكا الذي ارتبط بـ"الذهب الأصفر"، ولا احتلال العراق "الذهب الأسود"، ولا استعمار أمريكا الجنوبية "الموز"، وحتى مشهد من فيلم هوليودي عن رعاة البقر وهم يصطادون الهنود الحمر، وفيه القاتل يصوب سلاحه إلى ظهر الضحية، كان لا بد من دعاية لسيجارة المارلبورو والرجل الأبيض يعجّ عليها بطرف شفتيه.

اقرأ/ي أيضًا: شاهد | غضب فلسطيني على "بيتزا هت"

قد يكون المُنتج هو الغاية من الأحداث العظمى، وربما يكون أيضًا نتيجة لها، وليس سرًا أننا جميعًا اليوم ضحايا مُسخرين من أجل وسائل إعلان لمنتجات شتى صُنع لأجلها عوالم افتراضية ووقائع حيّة، فقط من أجل جذب انتباهنا لتلك المنتجات وتسويقها، فكل ما تريده الشركات هو حدقة عين المشاهد، وشد انتباهه ليكون مستعدًا للشراء والاستهلاك، وقد صاغ المفكر الأمريكي توماس فريدمان العلاقة الجدلية بين السلعة والأحداث الكبرى بنظرية الأقواس الذهبية: "لا يمكن أن تقوم حرب بين دولتين فيهما مطعم ماكدونالدز".

ولو فسّرنا النظرية بأسلوبٍ آخر؛ فلا بُدّ من وقوع حدث عظيم يقومون فيه بحشو منتجاتهم، حتى لو استدعى الأمر حربًا تذهب ضحيّتها أعداد لا نهاية لها من الضحايا.

وبلغة أخرى؛ فإن إيقاف تلك الحرب ونشر السّلام يحتاج أيضًا إلى صفقة تجارية، تقوم الدولة المستقلة باستدخال المطعم الشهير بأقواسه الذهبية التي يتخذها شعارًا، أو أي منتج آخر غيره.

مثل أفلام رعاة البقر وهم يقتنصون الهنود الحمر بمسدس طاحونة وسيجارة مالبورو، أخرجت لنا إدارة السجون الإسرائيلية فيلمًا أظهر المناضل مروان البرغوثي في مشهد صوِّر له وهو يأكل حبة شوكلاته من نوع "تورتيت"، وهي من منتجات شركة "عليت" المُحتكِرة تقريبًا لكل المنتجات التي يشتريها الأسرى من "كانتينا" السجن.

وكان المشهد المشكوك بصدقيته؛ ليس فقط لأن مروان الذي أمضى معظم عمره في السجن يعلم - مثلما يعلم أي أسير أمضى يومًا واحدًا- أن غرف العزل مليئة بالكاميرات، وهي كاميرات ظاهرة وبائنة على جدران الزنزانة الجرداء. وليس فقط لأن حبة "التورتيت" المحشوّة بالبسكويت وعليها مسحة رقيقة من الشوكولاته، لا يمكن عدّها كوجبة غذائية لمُضرب أمضى ثلاثة أسابيع من الجوع المميت، بخلاف أنواع كثيرة من الحلوى التي تمد الجسم بالسكّر والطاقة بما يعادل وجبة كاملة.

في حرب تموز 2006 حاصر جيش الاحتلال في بلدة بنت جبيل لما يقارب الأسبوعين خلية عسكرية تابعة لحزب الله، وبعد أن فُكَّ عنهم الحصار قالوا في لقاء على قناة الجزيرة بأنهم اكتفوا كل يوم بحبة "سنيكرز" واحدة لكل مقاتل مُحاصر، ساعدتهم تلك الوجبة على إكمال حتى واجبهم العسكري في استهداف الدبابات المعتدية بصواريخ الكورنيت.

كان من الأفضل لمروان صحيًّا وعمليًا -لو افترضنا أنه أراد التحايل- أن يستغني عن كل ما سبق بحبة تمر، والتمور متوفرة في المعتقل وهي أصغر حجمًا وأكثر فائدة.

بل لأن هذا المنتج "التورتيت" لمن تذوقه في المعتقل أو خارجه، هو من أردأ أنواع الشوكولاته التي أنتجتها شركة "عليت" وأقلها تسويقًا، سواء داخل المعتقلات أو خارجها في السوق الإسرائيلية.

كان من الأفضل لمروان - لو افترضنا أنه أراد التحايل- أن يستغني عن التورتيت بحبة تمر، وهي متوفرة في المعتقل وأصغر حجمًا وأكثر فائدة

وبحسب موقع إسرائيلي موجّه باللغة العربية: "تُعتبر حلوى تورتيت شعبية بشكل خاص في أوساط المتدينين اليهود، لأنها لا تحتوي على منتَجات حيوانية مثل الحليب والبيض، وهكذا يمكنهم تناولها في كل وقت، نظرًا لأن الديانة اليهودية تحظر تناول الحليب بعد تناول اللحم، لذلك هناك تقييد في استهلاك الشوكولاته ومنتجات الحليب في أوساط اليهود المتدينين فقط".

وقد غدا هذا المُنتج اليوم بفضل ذلك المشهد العظيم، هو المنتج الأكثر مبيعًا في إسرائيل، فقد أنتجت شركة عليت الملايين منه خلال أيام قليلة، ألا تضع هذه القفزة بالمبيعات والتسويق تساؤلاً حول صفقة دعائية مدفوعة الثمن تمّت بين إدارة السجون وشركة عيليت؟

اسألوا "بيتزا هات" التي حاولت ركوب المشهد، وندمت بسبب حملات المقاطعة العربية، بعكس "عليت" التي استطاعت بأقوى إعلاناتها الممولة جذب انتباه المستهلك، واغتنت على حساب الضحية هذه المرة، وليس على حساب القاتل/ راعي البقر، الذي يتسلح بمسدس طاحونة وسيجارة مارلبورو!


اقرأ/ي أيضًا:

من أجل هذه الحقوق يتجوع الأسرى

دماء الهنود الحمر من أجل غسل ذنوب إسرائيل

أعمال الدهس.. ذنوب المستوطنين المغفورة