14-أبريل-2018

لم تفهم ما كان يقوله الجنود لبعضهم عندما اقتربت زحفًا من السياج لتسعف شابًا استنشق لتوّه "الغاز المسيل للدموع"، لكنها شعرت بأن شيئًا ما مهمًا سيحدث بعد لحظات. على أي حال، كانت شروق تؤمن بأن "الفلسطيني الجيد في نظر الجنود هو الذي يموت قبل غيره"، ولهذا هيأت نفسها عندما أخذت قرار الاقتراب على مرأى القناص لفكرة أنها قد تصبح "فلسطينية جيدة" في أي لحظة.

"أنت بخير، لا تقلق، أنت بخير"، صرخت بعد أن طلبت من شابٍ ممدّد بالقرب (كان عالقًا هناك منذ أكثر من نصف ساعة) أن يقترب فيساعدها في تثبيت جسده المتشنّج. رشت في أنفه "سائل الكولونيا"، ومسحت عن جبينه "غيمةً" خلّفها دخان "الكوشوك"، حتى فتح عينيه، "أنت بخير.. ها؟"، رفع الشاب رأسه وخرج الكلام من فمه ثقيلاً يجر بعضه بعضًا: "الحمد- لله".

شروق مسامح، مُسعفة تعاني من الهيموفيليا ظلت تُقدم الإسعاف في خزاعة ساعات دون أن تعرف أن قدمها مكسورة

من خلفهما هاجت جيوش المرابطين على عتبات حلم العودة فجأة! عشرات قنابل الغاز ألقيت دفعةً واحدة لتخترق دخان "الكوشوك"، وتخنق أصوات المكبّرين هناك. لم يكن أمام شروق إلا أن تختار الوقوف، رفعت رأسها وطلبت من الاثنين برفقتها أن يتبعانها إلى حيث تجتمع الحشود نحو الخلف بأقصى سرعة. وصل الاثنان لكن شروق تأخرت، كانت في الخلف تعرج بعد أن أصابت مفصل قدمها قنبلة، فلمّا همّت بالهرب تعثّرت بسلك "كاوشوكة" متفحّمة فسقطت.

اقرأ/ي أيضًا: جريحات في مسيرات العودة.. "لنكون أول العابرين"

أجبرتها على الوقوف ثانيةً أصوات رجالٍ ونساءٍ اختنقوا بدخان القذائف، أخرجت من جيبها كومة قطنٍ وبدأت تقصُّه قطعًا صغيرة وترشه بـ"الكولونيا" وتنتقل به بين المصابين. 30 مصابًا تقريبًا خلال أقل من ثلث ساعة. تصرخ على هذا وذاك، وتنادي الزاحفين نحو الخطر أن يؤجلوا تقدمهم لـدقائق فقط، ريثما تلتقط أنفاسها.

في السادس من نيسان/إبريل الجاري، من بعد أذان ظهر "جمعة الكوشوك" حتى أذان مغربها، لم تكن شروق مسامح على قيد الشعور بأي وجع. قدمها مكسورة، والجرح مكان إصابة القنبلة ينزف، لكنها فعلت كل هذا. بل إن شروق كانت قبل أسبوعين من هذا التاريخ على أحد أسرة مرضى الضغط المزمن، و"الهيموفيليا"، تخضع لعملية نقل وحدات الدم وصفائح البلازما لجسدها الذي باتت "الكانيولا" جزءًا منه لا يغادره إلا أيامًا معدودة كل شهر.

في قصة شروق، المسعفة المتطوعة على حدود بلدة خزاعة شرقي مدينة خان يونس، جنوب قطاع غزة، هناك ما يثير الدهشة وأكثر.

بدأت القصة عندما تمكنت شروق من انتزاع موافقة زوجها عُقبة على مشاركتها وابنها ذو العام الواحد في أول مسيرات العودة، في الثلاثين من آذار/مارس الماضي. "قالوا ستكون سلميةً، إلا إذا افتتح الجنود المواجهة"، ولهذا قرّرت أن من حقها - كغيرها من اللاجئين - الهتاف لأجل عودة بلدتها بئر السبع، بل وأقنعت حماتها المهجرة مثلها من نفس البلدة بذلك، فكانت رفيقة الطريق.

أخذت المسعفة شروق مسامح إلى المواجهات شالاً مطرزًا جلبته معها من القدس، في آخر رحلة علاج هناك، واستخدمته في تضميد جروح المصابين

جلست النساء في الخيام المنصوبة على بعدٍ يزيد عن النصف كيلومتر بقليل، حماتها تحمل الطفل يوسف وتتحدث إلى نساءٍ كُنّ هناك عن أيام البلاد، وما تعرف كل واحدةٍ منهن عنها، فيما كانت شروق ترتّب شالها المطرّز الذي جلبته معها "في آخر رحلة علاج من القدس". هذا ما رصدته حماتها من تحركاتها داخل الخيمة، تحديدًا قبل ثوانٍ من اختفائها.

اقرأ/ي أيضًا: حكاية محمد النجار.. حتى لا يبرد في ثلاجة الموتى

تسألون أين ذهبت شروق؟ لقد اقتربت من السياج حتى صار يبعد عنها أقل من متر، تلاحق فتاةً قالوا "إنها ابنة شهيد" تمسك بعلم فلسطين، وتهمّ باجتياز السلك حيث الجنود. هرولت ناحيتها ولما اقتربت منها بدأ إطلاق النار، سقطت الفتاة، لم تُصب، بل أُغمي عليها جرّاء الخوف، انبطحت شروق أرضًا، وبدأت تصفع وجهها برفقٍ حتى تصحو، صحت الفتاة أخيرًا على صوت فتىً كان يزحف نحوهما يريد إنقاذهما معًا، فلما وصل إليهما أصابته رصاصة شقّت فخذه.

دونما تفكير، وبينما الرصاص ينهمر فوق رؤوس الشبّان، خلعت شالها المطرز ولفّت به ساق الشاب لإيقاف النزيف، ثم انسحب الثلاثة كلاً إلى حيث أهله ينتظرون.

شروق طالبة التمريض، التي بدأت مع بداية شهر آذار/ مارس الماضي تدريبها العملي في المستشفى الأوروبي بخان يونس، قرّرت بعد أن أقسمت "يمين شرف المهنة" أن تكون في أول الصفوف "إذا ناداها الواجب"، وما حدث معها في جمعة العودة الأولى، دفعها إلى أن تقرر العودة في الجمعة التالية.

مرّت أيام الأسبوع التالي طويلةً جدًا "كأن الدقائق تمط أذيال بعضها فتعيقها عن المضي نحو الجمعة" كما تصف، حتى حان وقت "جمعة الكوشوك". قبلها بيوم، ذهبت شروق إلى مكتب أستاذها "الطبيب" في المستشفى الذي تتلقى فيه تدريبها، وسألته عما لو كان بإمكانه مساعدتها في معرفة كل ما يتوجب على المسعف معرفته عن حالات الطوارئ. قال: "في يومٍ واحد؟ هذا مستحيل"، فأجابته بإصرار: "بل يمكن، ليس عليك إلا أن تتحدث الآن".

الطبيب الذي ضحِكَ لقولها لم يجد أمامه حلاً إلا أن يقدم لها مادةً مصوّرة، تشمل أنواع الكسور، وطريقة حمل المصاب لكل كسر، وأنواع الجروح، وطريقة ضم الجرح المفتوح، وإسعاف المختنق بالغاز قبل أن يدخل في غيبوبة، وإصابات الرأس، والحوض والصدر وغير ذلك.

تعلّمت شروق قواعد إسعاف الكسور والجروح والاختناق بالغاز وإصابات الرأس والحوض والصدر في يوم واحد

"لن تذهبي يا شروق، أين تتركين ابنك؟ وهل ينقص جسدك أوجاعًا أخرى حتى تعودي إلينا مصابة؟" كان زوجها يطلق أسئلته متأكدًا من أنها لن تجد جهة تتحمل مسؤولية طالبة في عامها الجامعي الثاني بعد أن "تتطوع في شبه معركة"، لكنها كانت ترد بحزم: "سأتدبر أمري، أنت قل (نعم)، وفقط".

اقرأ/ي أيضًا: عندما قتل الاحتلال جهاد مقتلعًا عيون شقيقاته

طوال الليل وحتى صبيحة اليوم التالي، كانت "شروق" تلتهم المعلومات التي أعطاها إياها الطبيب من حاسوبها التهامًا، تبكي تارة، وتوقظ زوجها تارات، تناديه: "أرجوك يا عقبة، أريد أن أشارك مع طواقم الإسعاف هناك"، حتى وافق أخيرًا، بعد أذان الفجر.

تمام السابعة صباحًا، قبلت جبين الصغير يوسف، وانطلقت نحو المستشفى العسكري الجزائري في نفس المنطقة، لكنه لم يسعفها إلا ببعض القطن والشاش "فيما لو أحبت أن تشارك وحدها"، إلا أن أحدهم لما جسّ انكسار قلبها بعد تلك الـ"لا"، دلّها على جمعيةٍ تطوعية يمكنها أن تساعدها الآن.

في "جمعية التوبة" ختم الطاقم مريولها الأبيض بختمهم الخاص، وسلّموها حقيبة بمحتويات كاملة: زجاجات "كالونيا"، وزجاجات خل، وقطن، وضمادات، ولاصقات جروح، ومقص، ثم علّموها مع باقي الطاقم استخدام جرار الأوكسجين مع من يعانون من أزمات تنفس بالأصل.

لما وصلوا حدود خزاعة، رفعت شروق رأسها عاليًا، كيف لا؟ وهل التي انتزعت قرارها للتو من بين براثن الأعراف والتقاليد التي تجعل المرأة في الصف الثاني -دائمًا- ضمن أي مواجهة. انطلقت صوبَ أول صرخات المصابين قرب السياج، هذا قبل أذان الظهر بساعتين تقريبًا.

كان الشاب ينزف وقد خرجت أمعاؤه كلها من بطنه، تيقّنت شروق أنه "شهيد الساعة"، فطمأنته - وكان يسمعها جيدًا - بأنه حي يرزق، ثم سألته أن ينطق الشهادة، فصار يردد ما تلقّنه حتى إذا ما انتهى "نام واطمأن" كما تقول. صرخت: "شهيد.. هنا شهيد"، ثم التفتت فإذا بإصابة.

كان عشرينيًا أصابته رصاصة في رأسه، زحفت بين دخان "الكوشوك" ودليلها صوت تكبيرات المتجمهرين حوله، فلما ابتعدت عن السياج بضعة أمتارٍ وقفت، كان المسعفان المتطوعان معها وصلا قبلها، فطلبت منهما إبعاد الناس عنه، وضعت أصابعها ناحية نبضه، فإذا بـ"الروح ما زالت ترتعش". نادت "إسعااااف، هيا بسرعة، إنه ينبـــــ...."، وقبل أن تكمل كلامها كان الشبان الذين رأوا دم رأسه ينزف حملوه، وبدأوا يكبرّون ويهتفون وسط ضجيج الموت هناك بـ "لا إله إلا الله.. شهيدنا حبيب الله"، صرخت، "خذوه إلى الإسعاف، ما زال ينبض"، لكنهم لفّوا به البقعةَ شهيدًا حتى لفظ أنفاسه.

"نظرية القناص تقول أنا أصيبه، والفلسطينيون يكملون المهمة"، قالتها شروق ساخرةً لكن بجدّية في عينيها، إنها تتحدث بحرقة عن أرواحٍ تهاجر إلى السماء بسبب ما أسمته "قلة الوعي بأسس السلامة والإسعاف وقت المواجهة".

كانت المسعفة شروق مسامح شاهدة على ارتقاء شهداء نتيجة قلة الوعي بأسس السلامة والإسعاف وقت المواجهة

كانت كلما اقتربت من السياج "وهي مسعفة متطوعة" جنبًا إلى جنب مع طواقم الإسعاف الرسمية يسأل أحدهم: هذه الفتاة لا تستوعب جدية ما يحدث هنا؟ جدّية أن هناك - حيث تقترب كل وقت - يوجد قنّاص يتسلّى بانتزاع أرواح الفلسطينيين كلما أصابه الملل. لكن شروق وحدها من تملك الإجابة.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟

تقول: "كنت أدرك تمامًا جدية ما يحدث هناك، وأعرف أنني لو أصبت أو استشهدت مثلاً لما تبنّى اسمي أحد، ولا كنت حصلت على تعويضٍ مثلاً أو حتى صورة لي مع أحد المسؤولين يزورني على سرير الشفاء. لكن عندما تجربون استنشاق الهواء المضغوط في غرفة عزل نقص المناعة، ستعرفون قيمة كل نسمة هواء باردة يمكنكم استنشاقها وأنتم بأتم الصحة".

عاشت شروق منذ كان عمرها 12 عامًا ظروفًا صحية صعبة. كان العيدان يزورانها وحدها أحيانًا في "غرفة عزل المرضى ضعيفي المناعة"، وعرفت من الألم كل معنى، فهي مريضة "ضغط مزمن" و"هيموفيليا" تضطر لاستقبال وحدات الدم الجديدة وصفائح "البلازما" مرة كل شهر تقريبًا، ومؤخرًا، أصيبت بورمٍ "غير معروف الهوية" بعدما أنجبت ابنها البكر يوسف.

شاركت شروق بجسدٍ ضعيفٍ إلا من العزيمة، واستمرت تقدّم ما استطاعت بقدمٍ لم تعرف أنها كُسرت إلا بعد مغيب شمس الجمعة، عندما كشفت عنها فوجدتها زرقاء منتفخة، وفي طرفها جرحٌ ينزف بفعل ارتطام قنبلة الغاز (كما ورد في مقدمة القصة).

وقبل أن تُكمل أسبوعًا على إصابتها وتجبير قدمها، توجهت - دون علم - أحد إلى المستشفى، فكّت الجبيرة عن قدمها على مسؤوليتها، وعادت إلى الميدان مُسعفة كما كانت.

تُبيّن معطيات وزارة الصحة أن 44 عنصرًا في الطواقم الطبية العاملة في نقاط التماس بقطاع غزة أُصيبوا منذ بداية أحداث مسيرات العودة، فيما تضررت أكثر من 14 سيارة إسعاف بشكل جزئي جراء تواجدها في مرمى النيران والقنابل على مدار أسبوعين متتالين.

ويؤكد الناطق باسم الوزارة أشرف القدرة أن جنود الاحتلال يطلقون الرصاص على السيارات مباشرة لإعاقة وصولها إلى المصابين.


شاهد/ي أيضًا:

فيديو | غزة حزينة.. ياسر مرتجى شهيدًا

فيديو | ساقي الثوار

فيديو | "طفل البصل".. أيقونة أخرى لـ مسيرات العودة