31-يوليو-2017

كانت المقاهي في نابلس معقلاً للمثقفين والنشاطات الثقافية والفنية – صورة توضيحية (Getty)

لم يخطر ببالي حين دخلت قسم الأرشيف في مكتبة بلدية نابلس العامة، أني سأجد كل ذلك الزخم الإداري للنشاط الثقافي الهام الذي كان للنادي الثقافي الذي أسس في العام 1936، وكانت غايته رفع المستوى الأدبي والثقافي في البلاد.

هذا النشاط كان يتردد في جنبات نابلس في بدايات القرن العشرين؛ فهذه القرارات في الملفات الصفراء التي تعطي مناقصة عمل مسرح في صالون الحديقة الرشادية، وذلك قرار البلدية بترخيص شغل التشخيص (سينما) في ذات الحديقة، وهذا إعلان عن محاضرة عجاج نويهض في دار النادي الثقافي في نابلس 20 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1937، وترويج لعرض مسرحية رواية الفاجعة في نابلس على مسرح الهموز يوم السبت 8 حزيران/يونيو من عام 1935، وهناك محاضرة سيلقيها أحمد أمين في نابلس العربية 26 كانون الثاني/يناير 1936، وتلك استضافة لمحمد حسين هيكل في المدينة لتكريمه، وغيرها من الطلبات والموافقات التي تعلقت بالجانب الفني والثقافي.

هذا الأرشيف وبما يكتنزه من معلومات، يضعنا أمام تساؤل عن طبيعة وحال المشهد الثقافي الحالي المعاصر في فلسطين بشكل عام، ونابلس على وجه الخصوص، كونها تمثل حالة من الاهتمام الثقافي المميز طيلة الزمن القديم، سواء على المستويات الدينية والأدبية والثقافية وحتى السياسية. فالمقارنة هنا ضرورية لمحاولتنا الإجابة على هذا السؤال الذي حملناه لعدد من النقاد والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي الحالي.

شهدت نابلس أواخر القرن التاسع عشر ازدهارًا ثقافيًا، وخلال ذلك عُرفت فيها قامات أدبية وعلمية هامة

البروفسور عادل الأسطة، الناقد الأدبي المختص بالأدب الفلسطيني، يرجع الازدهار الثقافي لمدينة نابلس إلى العام 1878 وحتى 1900، وهو تاريخ شهد وجود عدد من القامات الأدبية والعلمية الهامة في المدينة، مثل أكرم زعيتر، وعادل زعيتر، ومحمد عزت دروزة، وبعض الشعراء مثل الحنبلي. وفي عام 1920 وُجد إبراهيم طوقان كشاعر مهم، ولم تعرف المدينة شاعرًا بأهميته، وفق قوله.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط

نابلس، يقول الأسطة، قبل 1948 كان فيها أعلام، وكان لهم دور كبير في الثقافة الفلسطينية بشكل عام، وقد تناولهم الدارسون وتوقفوا أمامهم، ومنهم المؤرخ إحسان النمر، إلا أنه بعد وفاة ابراهيم طوقان بدأت تنهض شقيقته فدوى التي عُرفت في العالم العربي قبل أن تُعرف في مدينة نابلس، فلم تكن موضع إشارة من أهل نابلس، ولم يكونوا يشترون دواوينها رغم أنهم كانوا يعرفون أخاها إبراهيم.

بعد إنشاء مكتبتها عام 1961، حاولت بلدية نابلس إقامة معارض فنية، وحاول آخرون إقامة ندوات أو أمسيات من خلال النوادي، ولكن لم تبرز أسماءٌ خلال فتره ما بين 1948-1967، باستنثناء فدوى، وكان قدري طوقان يُنظر إليه على أنه عالم ووجه ثقافي.

يشير الأسطة إلى أنه بعد عام 1967، طلب موشيه ديان لقاء وجوه نابلس الأديبة، فذهب قدري وفدوى طوقان لوحدهما.

ويبدو واضحًا أن نابلس شهدت منذ بدايات القرن العشرين، وحتى منتصفه، نهضة ثقافية عالية أشرف عليها أدباء وشعراء ومترجمون ومؤرخون ومثقفون، إلا أن هذه النهضة تراجعت ومثلها المشهد الثقافي النابلسي بشكل ملموس، وهو ما يعيده الأسطة إلى طبيعة نابلس التجارية والمحافظة بشكل عام.

ويشير الأسطة إلى أن أشخاصًا حاولوا إقامة مسرحٍ في نابلس عام 1976، حمل اسم مسرح الزيتونة، وافتُتح فوق مكتبة البلدية، إلا أن أهل المدينة رفضوه وحاولوا إحراقه، "لأن المسرح يحتمل الاختلاط المرفوض دينيًا واجتماعيًا". وأنتج مسرح الزيتونة مسرحيتين فقط، قبل أن يغلقه الاحتلال الإسرائيلي.

افتتح مثقفون في نابلس مسرح الزيتونة عام 1976، لكن مسرحهم لم ينتج إلا مسرحتين فقط، بعد أن حاول أهل المدينة إحراقه، ثم أغلقه الاحتلال

وحاول آخرون إقامة نادٍ ثقافيٍ مختلط في نابلس، لكنهم تحت وطأة التهديد من قبل "المحافظين" أسسوه بعيدًا عن المدينة.

وفي بدايات القرن العشرين كان لنابلس دورٌ كبيرٌ في المسارح والمقاهي التي كانت مكانًا للنشاط الفني والثقافي. فمقهى الهموز شهد حفلات غنائية واستضاف فنانين عرب، مثل أم كلثوم، وفيروز، وفريد الأطرش، وأسمهان.

اقرأ/ي أيضًا: متلازمة الأدراج تُهلك آثار نابلس

وعُرفت في نابلس مقاهي أخرى في تلك الفترة، مثل المنشية، ومقهى الشيخ قاسم، ومقهى عين حسين، وقهوة سوق الجديد، وقد استضافت هذه المقاهي فنانين من المدينة، أدوا مقطوعاتهم وأغانيهم.

ولا يزال أرشيف مكتبة البلدية، يحتوي على قرارات للمجلس البلدي تعود لعام 1923، تُبين الموافقة على هذه النشاطات شريطة "الالتزام بالآداب العامة" وفق ما جاء فيها، والالتزام بالوقت المتفق عليه، من الساعة السابعة والنصف مساء، وحتى منتصف الليل، "على أن لا يُتلى بها أو يُغنّى ما له تأثير على الأمن العام، أو غيره من الأناشيد السياسية".

ويبين الأسطة، أنه نتيجة انشغال أبناء نابلس بتجارتهم واقتصادهم، حاول أبناء الريف الوافدين الى المدينة أن يوجدوا حركة شعرية في نابلس، مثل عبد اللطيف عقل، الذي حاول إقامة أمسيات شعرية وأصدر دواوين، لكن أهل المدينة لم يحتفلوا به، فهاجم المدينة قائلاً: "أهل نابلس ما عرفوا جريمة التفكير مرة"، واتهمهم أنهم يهتمون بالتجارة بالدرجة الأولى، ولا يهتمون بالعلم.

ويُحمل الأسطة جامعة النجاح الوطنية جانبًا من المسؤولية عن فقر المشهد الثقافي، "فهي ورغم ما تقوم به من دفع للنشاط من خلال برنامج الماجستير، ما أوجد دراسة وكتابة عن الأدباء، إلا أن دورها ونشاطها، وجهدها لا تتناسب الآن مع حجم المدينة، ربما بسبب تمركز أكثر الشعراء والأدباء والصحافة في رام الله".

الشاعر علي الخليلي، ابن مدينة نابلس ذهب للإقامه في رام الله والقدس، ولم يبق في مدينة نابلس، وهو من أعلامها، ثم عاد إليها عام 1978، وأراد أن يشجع الحركة الشعرية فيها، فافتتح مكتبة سمّاها مكتبة الوطن، وبدأ يبيع الكتب، ويشجع مثقفي نابلس على الكتابة.

أدباء من نابلس هجروا مدينتهم متوجهين إلى رام الله، أو لخارج فلسطين، وآخرون من قرى نابلس لم تُرحب بهم المدينة فهجروها

عمل الخليلي محررًا لجريدة الفجر، أما المكتبة التي كان يعتقد أنه سيعيش منها فأغلقها لعدم نجاحها، وأقام في رام الله. يقول الأسطة، إن هذا الجو كان محبطًا، على الرغم من تأسيس الجامعة في عام 1977.

سحر خليفة، كاتبة وروائية ترجمت أعمالها إلى 20 لغة، لكنها قتلت نفسها في نابلس برحيلها إلى عمان، فلا يوجد في نابلس من يعرفها، بخلاف عدد من الذين يدرسون أعمالها وكتاباتها.

الشاعر الفلسطيني لطفي الزغلول وصف الحالة الثقافية في المدينة بأنها "فقيرة"، وأرجع ذلك إلى "عدم اهتمام وزارة الثقافة بالأدباء من حيث الطباعة والنشر والتوزيع والترويج"، مضيفًا، "لقد أخرجت 25 ديوانًا، وطبعت كتبي على حسابي وقمت بتسويقها شخصيًا ولم يدعمني أحد".

ويرى الزغلول، أن الصحافة المحلية تتحمل جزءًا من المسؤولية، إذ لم تعد تدعم الثقافة والأدب والشعر في صفحاتها كالماضي، "والسبب ربما عدم وجود رعاة للأدب والثقافة كما في السابق، ولهذا السبب تراجع الأدب والثقافة كثيرًا".

ويؤكد الزغلول، أن تراجع القراءة، واتفاقية أوسلو، تسببا بإحباط لكثير من الأطباء والشعراء، وانعكس هذا على نشاطهم، مضيفًا، "أنا أرى أن هذا الزمن ليس زمن الكتاب ولا زمن الثقافة، إنه زمن المسلسلات والمجلات والبرامج الفنية (..) هذا ليس زمن الكتاب الجميل، والزمن الجميل ولى عهده".

ونشأت في الآونة الأخيرة محاولات لإعادة إحياء النشاط الثقافي في نابلس، من خلال مجموعة من المثقفين الشباب، منهم الذين أنشأوا "مجموعة أسفار" لعرض الكتب وإقامة النشاطات الإعلامية والفنية المختلفة، وهو نموذج لعدد من المجموعات التي تُعنى بنفس النشاط في مدينة نابلس.

هذه المجموعة لا تخفي ضيقها من الواقع الحالي، وهو ما قاله لنا أحد أعضائها حسين خويرة: "مساحة الحرية في نابلس أقل منها في رام الله، وينعكس هذا على طبيعة الحضور ونوعية مشاركاتهم"، مضيفًا، "نشعر من خلال لقاءاتنا العامة بأن الشباب النابلسي فاقد للأمل، المؤسسات في المدينة تحارب الثقافة، وقد يكون لمبررات تافهة مثل منع نقاش رواية جريمة في رام الله، هذا عدا عن الهدم الأخير لأيقونة ثقافية كسينما العاصي".

لكن حمد الله عفانة مدير دائرة ثقافة محافظة نابلس، يقول إن وزارة الثقافة في نابلس تبذل الجهود في سبيل تنظيم نشاطات وفعاليات ثقافية على مدار العام، وأن هناك تنسيقًا مع كافة المؤسسات، وعلى رأسها المجلس الثقافي الاستشاري الذي تأسس في كافة المحافظات.

الشباب في نابلس فاقد للأمل، ويعتقد أن المؤسسات في المدينة تحارب الثقافة لمبررات "تافهة" كما حدث مع رواية جريمة في رام الله

وأضاف عفانة، أن هناك خطة ثقافية لكل عام تشمل المحطات والمفاصل الثقافية من مناسبات وطنية وثقافية، وتنفذ بالتعاون مع المؤسسات ذات العلاقة، مثل جامعة النجاح المراكز الثقافية والمحافظة والبلدية بموجب خطة مكتوبة مسبقًا تنفذ خلال العام.

وأشار إلى أن موازنة وزارة الثقافة هي الأقل بين كل الوزارات، وتشمل رواتب الموظفين وأجور المكاتب، فهي ليست وزارة سيادية، ولذا تتذيل قائمة الدعم المادي. وأضاف، "نفذنا خلال شهري آذار ونيسان تقريبًا 45 نشاطًا في محافظة نابلس لوحدها".

وينعكس ضعف الميزانية وقلة حيلتها على النشاطات بشكل مباشر، حسب عفانة الذي نوه إلى أن تكلفة كل فعالية في مسرح الأمير تركي بجامعة النجاح تصل إلى ثلاثة آلاف دولار، "وهو مبلغ لا نستطيع توفيره لأي فعالية دون دعم خارجي". وأشار إلى استخدام مدرج جمال عبد الناصر، إلا أن ذلك لا يكون متاحًا دائمًا، بسبب الحاجة لأدوات صوتية ضخمة يتعذر توفيرها، هذا إضافة لكونه مدرجًا خارجيًا وتحول الظروف الجوية أحيانًا دون استخدامه.

ويعاني المشهد الثقافي في نابلس أزمة حقيقية، رغم النشاطات الثقافية التي تقام هنا وهناك، فهي إما شكليات ثقافية لا تبني مشهدًا ولا تقيم واقعًا ثقافيًا، أو هي نشاطات متناثرة لا تجمعها سوى كلمة ثقافة، ولا يمكن أن نصوغ من فتاتها وتناثرها مشهدًا ثقافيًا حقيقيًا.

والمأمول هنا لمن يضع التصورات والخطط والاستراتيجيات الثقافية للمدينة، أن يحدد بالضبط أي ثقافة نريد، وما هي آليات ترسيخها في واقعنا، وإلا فالخواء الثقافي الذي نعيشه سيزداد تغولاً، وسننسى صورة فلسطين التي نريد.


اقرأ/ي أيضًا: 

الختامة.. فرحة اندثرت في نابلس

عن تاريخ الصيدلية في فلسطين.. صور

نابلس.. مآذن تحكي تاريخًا