03-مايو-2019

لا تُشير التشريعات الفلسطينية السائدة إلى وجود رقابة سابقة على النشر، ومنذ نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية وإقرار قانون المطبوعات والنشر لسنة 1995، ولّى بلا رجعة عهد الرقابة العسكرية الإسرائيلية السابقة على النشر، ولم تعد وسائل الإعلام الفلسطينية بحاجة إلى عرض أيّ نسخة من مطبوعاتها لأي جهة رسمية كي تقرر السماح لها بالنشر، وأصبحنا نحكم بقانون أساسي فلسطيني كفل لنا دون انتقاص حرية التعبير.

   البيئة القانونية الفلسطينية تكفل حرية التعبير، لكنّ الواقع يقول خلاف ذلك!  

نصّ القانون الأساسي في مادة حملت ذات الرقم الذي حمله العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (19) على أنه لا مساس بحرية الرأي، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير أو الفن مع مراعاة أحكام القانون. وأفرد القانون الأساسي مادة أخرى (27) كفل بها الحق للجميع في تأسيس الصحف وسائر وسائل الإعلام، وكفل حرية وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وحرية الطباعة والنشر والتوزيع والبث، وحرية العاملين فيها، وحظر الرقابة على وسائل الإعلام، فلا يجوز إنذارها أو وقفها أو مصادرتها أو إلغاؤها أو فرض قيود عليها إلا وفقًا للقانون وبموجب حكم قضائيّ. 

ما سبق يعكس بيئة قانونية كافلة لحرية التعبير، لكنّ الواقع العملي يختلف عن ذلك؛ فالقيود المفروضة على حرية التعبير كثيرة ومتعددة، ومن أحد جوانبها صرعة المقالات التي ينشرها كُتّاب محترفون تبدأ بديباجة فحواها "مقالي الذي منع من النشر"،  فتزداد رغبة القُرّاء بقراءة المقال الذي يشبه بديباجتة "شاهد الفلم الممنوع من النشر"، ويذهب ظنُّ القارئ إلى أن هناك جهات رسمية منعت نشر المقال لخطورة ما يحتويه من معلومات، فيقرأ المقال بعناية، ويجده مقالًا لا يختلف في نوعه وصخبه عن مستوى ومحتوى ما ينشر في وسائل الإعلام المحلية، ليتبيّن أنّ منع النشر لم يأت من السلطة مباشرة بل جاء من رئيس التحرير لحسابات خاصة عنده، وغالبًا لها علاقة بالسلطة، ولا علاقة لذلك بمخالفة المقالة للقوانين المعمول بها.

الغريب في الأمر هو قيام الكاتب بنشر مقالته التي لم تنشر في مكان آخر غير المكان الذي اعتاد النشر فيه فاضحًا بذلك الوسيلة التي امتنعت عن النشر بنشره ديباجة "المقالة التي مُنع نشرها"، ثم يعود في الأسبوع الذي يليه لنشر مقال بذات الوسيلة الإعلامية التي منعت نشر مقاله في الأسبوع الماضي، متجاهلًا أن عودته للنشر في وسيلة إعلام رفضت نشر رأيه من قبل هو وصفة حقيقية لتكريس ما بات يعرف في وسائل الإعلام بمفهوم الرقابة الذاتية، وهي وصفة خطيرة لا يجوز أن يتعاطى معها أي كاتب محترف، فخنوع الكاتب لشروط رئيس التحرير أو مالك الصحيفة يفقده صفة كاتب الرأي الحر، ويتحوّل دون أن يشعر إلى كاتب على مقاس رئيس التحرير.

   خنوع الكاتب لشروط رئيس التحرير أو مالك الصحيفة يفقده صفة كاتب الرأي الحر، ويتحوّل إلى كاتب على مقاس رئيس التحرير!   

لا شكّ أن وسائل الإعلام ليست جميعها محايدة، ولدى غالبيتها سياسات إعلامية تمثّل مصالح الجهات التي تقف خلف إنشائها حتى المستقلة منها، لكن هذا يرتبط بالدرجة الأولى بسياستها التحريرية في الأخبار والتقارير التي تنشرها، ولا يمكنها أن تُفرض إطلاقًا على كُتّاب الرأي، فكاتب الرأي هو صاحب رسالة حرة، وهو يختار النشر في الوسيلة التي تحمل ذات الآراء التي يحملها، أو تختاره وسيلة إعلام تؤمن بآرائه، وامتناع الوسيلة الإعلامية عن نشر أي مقالة من مقالاته يشكل إخلالًا بقاعدة العلاقة المتكافئة بين الكُتّاب ووسيلة الإعلام.

في ظل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي أصبح لكُتّاب الرأي هامشًا واسعًا للتعبير عن آرائهم بحريّة، بل إن بعض الكتاب ومن يقدّمون البرامج العالمية الذين اختلفت آراؤهم مع سياسات وسائل الإعلام التي يعملون لديها، باشروا بإنشاء مواقع إعلامية تخصّهم، وحجم الجمهور الذي يتابعهم يفوق أحيانًا حجم من كانوا يتابعونهم على وسائل إعلام عالمية، ومثال على ذلك الصحفي الأمريكي من أصل تركي Cenk Uygar الذي كان يعمل في محطة MSNBC ومورست عليه ضغوط من المحرر على خلفية آرائه، فترك العمل بتلك المحطة وأنشأ قناته الخاصة على يوتيوب، وهي الآن الأكثر انتشارًا في الولايات المتحدة. 

    لا مبرر لأي كاتب أن يعاود النشر في مكان منع فيه من نشر آرائه  

وعليه لا مبرر من وجهة نظري المتواضعة لأي كاتب أن يعاود النشر في مكان منع فيه من قبل نشر آرائه عليه، فبعودته للنشر يعطي شرعية لرقابة المحرر ويعزز الرقابة الذاتية، ويساهم في خفض منسوب حرية التعبير.

في اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يصادف الثالث من أيار/ مايو في كل عام، أعتقد أنّه يتوجّب على المؤسسات المدافعة عن حرية الصحافة في فلسطين، وفي مقدمتها المركز الفلسطيني للحريات الإعلامية "مدى" وأي مركز آخر يقوم برصد انتهاكات حرية الصحافة، أن يقوم برصد كافة المقالات التي يُمنع نشرها من قبل المحررين، أو تلك المواد التي تقوم هذه الوسائل بنشرها ومن ثم إعادة سحبها، وأن تقوم في كل عام بنشر قائمة بالمقالات التي مُنع نشرها والتقارير والأخبار التي سُحبت عن المواقع الإلكترونية، مع الإشارة لهوية وسائل الإعلام التي فعلت ذلك، فهذا من شأنه إسقاط الغطاء الذي تختبئ خلفة أي وسيلة إعلام تساهم في تعزيز ثقافة الرقابة الذاتية ومنع النشر، ويمكن أن يشكّل هذا بداية لحملة رافضة لثقافة منع  الكُتّاب عن إبداء آرائهم بحرية.

أعتقد أنه يتوجّب على كُتّاب الرأي التوقيع على وثيقة فحواها "لن أعود ثانية للنشر في وسيلة رفضت نشر رأيي بغير وجه حق"، فكلمة رأي تعني أنّ المنشور ليس عملًا مجرّمًا، ومن حقّي نشره، ولا يجوز لوسيلة إعلام حرة الامتناع عن نشره. 


اقرأ/ي أيضًا: 

قانون الجريمة الإلكترونية: الأخ الأكبر يراقبك!

القضاء والإعلام.. وصراع أباطرة الحكم

ابنة وزير الخارجية

الحق في المجهولية