21-ديسمبر-2019

في رام الله القديمة، بيتٌ بُني عام 1956 تصعد إليه عن طريق درج حجري قصير ثم شرفة زجاجية، لتدخل إلى مقهى "سفر"، حيث ستجد حالة فنية نادرة في مقاهي رام الله. هنا يعزف أحد روّاد المقهى على آلة البيانو، ثم يقف آخر ويشاطره ذات اللحن مع العود، ثم صبية تغني بصوت جميل عذب، وفي جهةٍ أخرى فنانٌ يرسم لوحته.

مقهى سفر، هنا يعزف أحد روّاد المقهى على آلة البيانو، ثم يقف آخر ويشاطره ذات اللحن مع العود، ثم صبية تغني بصوت جميل عذب

غرفةٌ فيها مكتبةٌ صغيرةٌ وجلساتٌ هادئة، على أحد جدرانها قصة "مسرح سفر"، أما الجدار الثاني فيحمل معرضًا لصور الفنانة الفلسطينية منال ذيب، بينما تحتوي زوايا أخرى على أعمالٍ فنيةٍ لفنانين آخرين، وتأخذك إحدى الزوايا إلى درج خشبي تصل به إلى ردهة عالية بإطلالة أوسع ترى فيها رام الله بشكل أكبر.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | "بيت ستي".. مطعم أثريّ في غزة

لكن هذا المقهى له قصةٌ أكبر من مجرد ديكور أو أثاث، فهو فكرة تمويل ذاتيّ لمسرح "سفر" الذي تأسس عام 2000 على يد الفنان والمخرج المسرحي فادي الغول الذي قدّم على امتداد سنوات العديد من الأعمال المسرحية، مثل مسرحية كلارنيت المنودراما الفلسطينية التي تُرجمت إلى خمس لغات، ومسرحيات أخرى تعليمية وترفيهية للأطفال مثل مسرحية الساحر أوز من الأدب العالمي، وقد حصدت تلك المسرحيات جوائز عربية وعالمية واعتلت مسارح فرنسية وجزائرية وأردنية وتونسية وغيرها.

مقهى سفر، فكرة تمويل ذاتيّ لمسرح "سفر" الذي تأسس عام 2000 على يد الفنان والمخرج المسرحي فادي الغول

يبدأ الغول بسرد قصته مع مسرح ومقهى سفر مُحمَّلًا بالعديد من التجارب، بدءًا بنشأته وترعرعه في بيروت والبداية المسرحية له منذ الثالثة عشرة من عمره مرورًا بدول أخرى كالأردن وسوريا وتونس التي عاش فيها محطاتٍ من عمره وصولاً إلى قراره بالعودة لفلسطين بعمر (21 عامًا).

في فلسطين بدأت تجربة الغول الفنية مع مسرح "سفر"، حيث كان يتخذ من ذلك البيت القديم مقرًا له قبل أن يتحول لمقهى ثقافي يجمع بين مواهب شبابية عديدة ومثقفين ومبدعين اتخذوا من "سفر" مقرًا ومنبرًا ومساحة حرة يمارسون فيها مواهبهم ويعرفون الناس عليها.

يُبين الغول، أنه احتاج إلى مقهى "سفر" في بحثه عن تمويل ذاتي مستقل للمسرح، أولاً لضمان ديمومة أعماله واستقلاليتها دون تحويل المسرح إلى مؤسسة تمتلكه بمجلس إدارة ودوائر إدارية ومالية بشكل يحيّد الفنّان عن فنه وإبداعه، وثانيًا ليعيش حياة كريمة مع أسرته.

يُحاول الغول توفير دخل ثابت لرواد المقهى أيضًا، فتجد بعضهم يغني وآخر يعزف، وهو ينوي أن يكون كافة العاملين معه في المقهى ذوو مواهب فنية وليس بعضهم.

اقرأ/ي أيضًا: المقاهي الثقافية: ضرورة؟ ماضي؟ واقعٌ يجب إنهاؤه؟

ذلك الذوق العام الموجود في المقهى برتابةٍ مبتكرةٍ وأثاث تعود كل قطعة فيه إلى عشرات السنوات، جمعها الغول بعناية من عدة مدن فلسطينية، ليكون ليس جامعًا للمواهب فحسب وإنما جامعًا للجغرافيا الفلسطينية من الشمال إلى أقصى الجنوب.

لم يتجاوز عمر المقهى ثلاثة أشهر، لكن يرتاده عشرات الشبان والمبدعين والفنانين والمواهب الصاعدة، حتى أن الزائر قد لا يجد مكانًا للجلوس فيه لكثرة زواره ومرتاديه.

لم يتجاوز عمر المقهى ثلاثة أشهر، لكن يرتاده عشرات الشبان والمبدعين والفنانين والمواهب الصاعدة

إحسان سعادة (26 عامًا) موظفةٌ وموسيقيةٌ تغني بصوت عذب في تلك الأجواء التي تراها لطيفة بتفاصيلها المريحة وفكرة "الدندنة" التي تشارك بها أشخاصًا آخرين بالمقهى، في مساحة تجمع فكرة أن يكون لكل مبدع دورٌ يؤديه بحريةٍ وأمام أشخاص لا يعرفهم  لكنهم أصبحوا يعرفونه، مضيفة أنها في كل يوم ترتاد فيه "سفر"، توسع من دائرة معارفها وعلاقتها بالوسط الموسيقي، وتجد فرصة للقاء أشخاص لم ترهم منذ زمن.

أما محمد عويضة الذي يرتاد هذا المكان أكثر من مرة في اليوم، فيراه مكانًا عفويًا قريبًا لأي شخص بعيدًا عن المدينة والأجواء السلبية، وعلى الرغم من أنه لا يمتلك موهبة فنية إلا أنه أصبح يرتاد المكان "ليشاهد ويستمع ويستمتع بإبداعات هؤلاء الشباب".

بينما استوحت جنة مطري، وهي طالبة إعلام في جامعة بيرزيت، قصة صحفية من هذا المكان، وأصبحت ترتاده "لتنهل المزيد من الفنون والمواهب التي ترى أنه تشبع روح الفلسطيني التي أثقلتها العديد من المشاكل اليومية" كما تقول.

منذ إنشائه، استضاف مقهى "سفر" فعالياتٍ وأنشطة ثقافية كالأمسيات الشعرية والغنائية، وتوقيع كتب وقصص ومعارض فنية لعدة فنانين، مثل "مقهى التصليحات"، و"مجموعة سرد"، ومجموعة "بلا بلا" لتبادل اللغات، والحكواتية عزة جبر وغيرهم.

منذ إنشائه، استضاف مقهى "سفر" فعالياتٍ وأنشطة ثقافية كالأمسيات الشعرية والغنائية، وتوقيع كتب وقصص ومعارض فنية

يقول الغول، إن هذه الفعاليات سواء التي تم تنظيمها والتحضير لها أو العفوية مجانية بدون أي مقابل يدفعه المشاركون أو الحضور، مضيفًا أن الفنانة زهيرة زقطان ستعقد معرضًا للمنتوجات والمطرزات الفلسطينية، يوم الأحد 22 كانون الأول/ديسمبر الجاري.

ويبدو الغول فخورًا بالمكان ومهتمًا بكافة تفاصيله الصغيرة والكبيرة، ويعتبره جزءًا من جهده الفني على مدار 18 عامًا، مؤكدًا أن الفن يجب أن يكون قريبًا من الجمهور والشارع الفلسطيني ومحاكيًا لكل فئاته، ولا يجب أن يقتصر المضمون الفني التجريدي على فهم النخبة فقط، وإنما يتوجب تبسيطه ليصل مداه إلى كافة الفئات، لأن الجمهور الموجود في قريةٍ أقصى جنين أو مخيم للاجئين يختلف عن جمهور يعيش في وسط رام الله .

وأفادنا الغول بأن "مسرح سفر" سينطلق من جديد بداية العام 2020، وسيعيد إنتاج مجموعة من الأعمال المسرحية التي سبق وقدموها مثل مسرحية كلارنيت التي كتبها عن ذكرياته الشخصية في بيروت عام 1982 في صبرا وشاتيلا، ليشاهدها جيلٌ آخر من الشباب.

"مسرح سفر" سينطلق من جديد بداية العام 2020

كما سيُقدم المسرح عملاً مسرحيًا تلفزيونيًا برؤية وإخراجٍ مسرحيٍ باسم "مسخرة"، وهو عملٌ كوميديٌ ساخرٌ ناقدٌ للعديد من القضايا المجتمعية والسياسية والاقتصادية الفلسطينية سيتم عرضه على قناة "يوتيوب" خاصة ضمن اسكتشات قصيرة بطابعها المسرحي، "تماشيًا مع التطور التكنولوجي ومحاولة إيصال العمل المسرحي للجميع" وفق الغول.

في مقهى "سفر" ستستمع لموسيقى الفن البديل الملتزم، وعزفٍ جميلٍ لفرقة موسيقية استخدمت آلاتها من المقهى نفسه، وستطرب بصوت شجي. وإذا أردت أن تبتعد عن ذلك كله، فلك أن تقرأ كتابًا أو تسمع شعرًا أو تراقب فنانًا يصنع لوحته أو تحفته بيده لتعرف منتجه النهائي. وبينما تعيش ذلك كله، أنت تساهم في استمرارية واستقلالية فرقةٍ مسرحيةٍ قدمت على مدار 18 عامًا أعمالاً مسرحية فنية خطت اسمًا فلسطينيًا على مسارح عالمية.


اقرأ/ي أيضًا:

مقهى في غزة يستعين بـ "السمك الطبيب"

كيف تجسس الإسرائيليون علينا في المقاهي؟

صور | متى يصحو "جمل المحامل" من سكرته؟