22-أغسطس-2015

منذر جوابرة.. ما الذي يمكن أن أقدّمه بأدواتي الفنية للأسير والشهيد؟

شيئان فقط هما كل طفولة فتى مخيم العرّوب، في سنوات الانتفاضة الأولى، المشاركة في المواجهات مع الاحتلال، ومحاولة تدوينها كيوميّاتٍ في دفترٍ صغيرٍ يحمله في حقيبته المدرسية، مع المقلاع لرجم الصهاينة، وحبّة البصل للوقاية من الغازات التي يطلقونها.

"الملثم" قراءة من زاوية مهملة للمشهد الفلسطيني المعاصر، ورسالة مضمرة عن هزائمنا

سنواتُ الانتفاضة لم تصنع وعي فتى المخيم فحسب، بل جعلته يرى وجوده، ويعرّف نفسه في التحدّي الذي كان يعيشه فيها، لكنه مع انتهائها بلغ الثامنة عشرة من العمر، وبات يعيش حياةً مملة لا يستطيع إدارتها بسبب الفراغ الكبير الذي وجد نفسه فيه.

تحدٍّ طفوليّ مع صديق جعله يعيد اكتشاف نفسه. وقتها سأله صديقه إن كان بإمكانه أن يرسم، ومع أنه لم يفعلها من قبل، فحصة الرسم الوحيدة حذفت من المنهاج لغضب المعلم من تلميذ رسم، في الدرس الأول، رجلًا يتبوّل. في التحدي رسم ببراعة. فاجأ نفسه قبل مفاجأة الآخر وهو يرسم أقرب شيءٍ إلى نفسه: الملثم. هكذا إذًا سيقول منذر جوابرة (1976) لـ"الترا صوت"، "جاء مشروع الملثم بوصفه استعادةً للرسمة الأولى من جهة، ومواصلةً لزمنها الذهبي، زمن الانتفاضة الأولى".

رغم توالي معارضه، وحضوره في المشهد التشكيلي الفلسطيني، إلا أنَّ جوابرة لم يستطع أن يقدّم ما يمكن أن يقال إنّه لمسته الخاصة، ذلك أنّ انشغاله بالشكل طغى على المحتوى. سطح اللوحة وتقنياتها تفوّقا على فكرتها وحكايتها. يقول: "كنت منهمكًا في جماليات اللوحة، لم يكن لدي موضوع، بل كنت ضدّه".

بدأت فكرة مشروع "الملثم" في 2009، عبر عرض أدائي تلثم فيه الفنان ونزل إلى الشوارع وعلى ظهره كيس من الحجارة، وراح يقدّم للمارة حجرًا ويسأل كلًّا منهم عن معنى الذي يمثله الحجر بالنسبة إليه. ثم أخذ المشروع مع الوقت أشكالًا عديدة، حيث قدّم جوابرة، تحت العنوان نفسه، أعمالًا متعددة الوسائط منها الفيديو والفوتوغراف والتجهيز والرسم. كما أن المشروع نفسه توزّع على عدة عناوين منها "مواطنة" الذي يرصد فيه انتقال المقاوم الفلسطيني إلى سلطوي، وحسب جوابرة: "عملت ضمن منظور كاريكاتيري، رصدت فيه العلاقة بين الإنسان العادي والجندي، حيث يتبادلان الأدوار في الظهور على شكل حمار، لأن كلًّا منهما يرى الآخر حمارًا في الواقع".

لكنه بخصوص مجموعة لوحات "الملثم" يشرح لنا: "جاء المشروع كحنين إلى زمن آخر، وبحثًا في ذاكرة المخيم، وفي كل المفقودات في الحياة الفلسطينية منذ جاءت سلطة أوسلو ونقلت الحلم الفلسطيني من التحرير إلى الدفاع عن الوظيفة. اللوحات تحمل نوعًا مما يمكن أن يحيل إلى التحريض، لا أنكر ذلك، بل أريد فعلًا ان يعود الملثم إلينا، ففي زمنه كانت المقاومة هي التعريف الأوضح للمجتمع الفلسطيني".

ثم يستطرد: "الملثمون يذكرونني بنظام اجتماعي من التضامن والتكافل كان قائمًا قبل اتفاقية أوسلو. ومن حسن حظي أنني عشتُ تلك الفترة، إذ لا يمكن لشباب اليوم ممن لم يروا إلا الفساد الذي كرّسته السلطة، أن يصدقوا أنّ هذا المكان شهد أساطير واقعية، أبطالها لا يختلفون عنهم. حيث كان الملثمون، بعد انتهائهم من المواجهات مع العدو، يعملون على توزيع المعونات على أهالي المناطق والأحياء، وكان الناس يكتفون بما يحتاجونه فقط، بينما ثقافة اليوم هي النهب".

نقلت سلطة أوسلو الحلم الفلسطيني من التحرير إلى الدفاع عن الوظيفة

الفلسطيني الملثم بكوفيته، في مشاهد من الحياة اليومية، إذ يظهر وهو يقرأ أو يدخن أو يلعب الورق، ليس بعيدًا عن وضعية المقاوم التي عُرف بها، فالملثم أساسًا هو الفدائي، ولاحقًا هو راجم العدو بالحجارة. السؤال هو: أين ذهب الملثم؟ وبناء عليه تفرعّت مجموعة عنقودية من التساؤلات: كيف يراه الناس الآن؟ ماذا يعني لهم؟ كيف ستكون علاقتهم به؟ ثم قبل هذا وذاك، لماذا اختفى؟

يقول جوابرة: "لم أقصد أن يكون اللثام موجوداً بالفعل على وجوه شخصيات اللوحات، بمقدار ما أردت ان أقوله إنه الرمز الذي يعيشه فيهم جميعًا، فالفلسطيني الذي يلعب الورق ويقرأ ويمارس أي فعل يومي عادي، لن يستطيع إكمال أفعاله اليومية تلك ما لم يستعد وجهه الحقيقي، وجه الملثم. وهنا تبدو المفارقة فادحة بين أن اللثام، وهو قناع بمعنى أو بآخر، قد صار وجهًا للفلسطيني.

"الملثم" قراءة من زاوية مهملة للمشهد الفلسطيني المعاصر، ورسالة مضمرة عن هزائمنا. وهو أيضًا رواية بصرية، لا تبالي بالأرشيف أو التوثيق بمقدار ما تبالي بفهم الواقع ومساءلته. يعلق جوابرة: "لعل من يلتقط الإشارة سيعرف ماذا حدث في غزة، أو لماذا يزداد الاحتلال شراسة في نهبه للأرض والبيوت؟".

مع هذه التجربة، نضج مشروع منذر جوابرة، وبما يشبه البوح يقول لنا: "صرتُ أشعر بالمسؤولية أكثر، وصار سؤالي الأول: ما الذي يمكن أن أقدّمه بأدواتي الفنية للأسير والشهيد؟ هل يمكن لألواني أن تجد مكانًا لها في المجال العام؟". ضمن هذا المعطى عمل على مشروع عن غزة بعنوان "مدينة في مواجهة البحر"، وفيه تناول البيوت المدمرة محاولًا جعل الدمار جزءًا من عمارة المدينة المستقبلية.

المشروع عبارة عن محاولة لجمع 452 صورة للشهداء الأطفال من أجل إعادة رسمهم، ففي حينه تعامل الناس معهم كأرقام فقط، كانت الفكرة البحث عن آخر صورهم وإعادة رسمها ليواجهونا، ولنتعرف على أسمائهم، وكم كنت أتمنى أن يكون هناك كاتب يبحث لنا في قصصهم وأحلامهم. تم جمع 72 صورة فقط، بعد شهور من البحث والتواصل مع المؤسسات والأفراد لكن دون جدوى، فنفذت 72 عملًا في حين تم تقديم 9 أعمال مرسومة بأزهار الياسمين بقلم الرصاص، وكأنها تنتظر صور البقية لاستكمالها واإادة رسمها.. إضافة لهذه المجموعة كان هناك ١٢ عملا لوجوه الاطفال، نفذت عن طريق التطريز. وفي مشروع آخر "البطل يقود الثورة" ثلاثة أعمال فوتوغرافية أدائية لشخص ملثم بكوفية من الياسمين. تم حياكة 452 ياسمينة في دلالة للشهداء الأطفال ودعوة المقاومة لاسترداد حقهم، هي دعوة لأن يكونوا أمانة في أعناقنا. الياسمين يرمز للأطفال، عبر عمره القصير، ورائحته الفواحة، وضعفه وذبوله حينما يسقط عن أمه الشجرة"

هي تجربة تبحث عن أولها لتبدأ من جديد، بشكل جديد، وكل تلك العودات المترافقة معها، من العودة إلى اللوحة الأولى، وزمن الانتفاضة الأولى، وإلى الوعي الوطني التحرري الذي كان يصون المجتمع الفلسطيني يومَ كان أمل التحرير قريبًا.. كلها عوداتٌ لصنع البداية التي يبدو أننا لم ننجزها كما ينبغي.