28-ديسمبر-2019

"شحب وجهي وشعرت بأني على بعد خطوة من الموت. لم ألحظ تغير المكان عليّ إلا بعد أن غطت كمامة الأكسجين فمي وأنفي، في دقائق فقط كان هذا التحول، كنت في صالة البيت عائدًا من العمل، وبدلًا من أتناول عشائي الذي وضعته أمي أمامي لتوها، كنت أتجرع الأكسجين في المشفى، وبعض إبر المحاليل مغروزة في يدي المتخدرة". هكذا لخَّص الشاب محمد خالد -اسم مستعار- ما تعرض له بعد يومٍ من العمل المكثف، أصيب على إثره بضيق تنفس شديد وأُدخل المستشفى.

عمال في مطاحن ومهن أخرى في غزة مهددون بأمراض مزمنة وقاتلة في الجهاز التنفسي بسبب عدم التزام المشغلين بالسلامة العامة

"محمد"، خريج تخصص إدارة الأعمال من جامعة الأزهر في غزة، دفعته البطالة للعمل بعيدًا عن تخصصه في إحدى مطاحن القهوة والبهارات منذ ما يزيد عن 5 أعوام، مقابل 25 شيقل (أقل من 6 دولارات) يتقاضاها عن 12 ساعة يوميًا. عندما تحدثنا معه اشترط عدم ذكر اسمه خوفًا من أن يطرده صاحب المطحنة الذي هدده بذلك من قبل.

اقرأ/ي أيضًا: عمال على سقايل العجز والموت دون حماية قانونية

قبل عامين، أصيب "محمد"، بالتهابات حادة في الرئتين والقصابات الهوائية، وصار يتعرض بين الحين والآخر لنوبة ضيق تنفس، تهاجمه غالبًا في أوقاتٍ يكون فيها عمل "التحميص والطحن" مكثفًا.

يشرح الشاب نشاط عمله اليومي في المطحنة قائلًا: "تخيل، أن تقضي ساعات داخل ضباب كثيف من غازات التحميص، فمثلًا، تحمص ما يزيد عن 20 كغم قهوة يوميًا، وأكثر من 7 كغم بهارات أخرى، في أفران متوسطة الحجم مركونة في غرفة ضيقة لها نافذة صغير بالكاد يمر عبرها الهواء، تتنفس كل غازات التحميص الموجودة في الغرفة، دون أن ترتدي كمامات تنقية هواء لتخفف من حدتها، ولا أجهزة لتنقية الهواء. كيف سيكون حالك بعدها؟ بالطبع ستصيبك كل أمراض الدنيا".

مؤخرًا، تطورت حالته الصحية، وتحولت إلى ما يشبه النوبة، حيث يتعرض لاختناق شديد. يضيف، "أما الطحن، يا إلهي لما يكون موعد طحن الشطة مثلًا، حين أشم غبارها، أشعر وكأنها سكاكين تنغرس في حلقي ورئتي".

ويتحمل "محمد" مسؤولية إعالة عائلته المكونة من 7 أفراد ولا دخل شهريًا ثابتًا  لها، يُساعده أخوه الأصغر الذي لم يتمكن من إكمال تعليمه الجامعي، وصار يعمل سائق أجرة، بعد أن منع مرض العظام والده من إتمام عمله في البناء والطوبار.

تظهر مُعطياتٌ صادرةٌ عن وزارة التنمية في غزة أن 70% من سكان القطاع غير آمنين غذائيًا، بينما أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أنروا" في وقتٍ سابق، أن 80% من سكان القطاع يعتاشون على المعونات الغذائية التي تقدمها لهم.

ووفق جهاز الإحصاء المركزي، فإن نسبة البطالة في قطاع غزة المحاصر وصلت إلى 50% خلال عام 2018.

أبلغ الطبيب، محمد، أن السبب الرئيس لإصابته بهذه الالتهابات الحادة هو تعرضه المتواصل لغازات التحميص وغبار الطحن في مكان لا يتناسب مع نوعية العمل. لكن عندما طلب محمد من صاحب المطحنة تركيب شفاط هواء، أجاب، "شو رأيك أركبلك كونديشن (مكيف هواء) في المحل كمان؟".

عندما طلب من صاحب المطحنة تركيب شفاط هواء، أجاب، "شو رأيك أركبلك كونديشن في المحل كمان؟

وأضاف أنه عندما طلب من صاحب المطحنة مساعدته في العلاج أجاب، "أنا غير مسؤول عن أوضاعك الصحية. بدك تكمل شغلك أهلا وسهلا ما بدك، في آلاف غيرك قاعدين في الشارع".

اقرأ/ي أيضًا: في غزة.. يتسلقون الموت مقابل قروش

لؤي الحلو (23 سنة) كان أوفر حظًا -لكن ليس كثيرًا- من "محمد"، عندما سمحت له ظروفه أن يُقرر ترك عمله استجابة لنصيحة الطبيب، ويفتح بسطة صغيرة للشاي والقهوة في ساحة الجندي المجهول، وهو الذي يحمل درجة البكالوريوس في تخصص التعليم الأساسي من جامعة القدس المفتوحة.

لؤي كان يعمل منذ أكثر من سنتين في محل شهير لبيع الفلافل وسط مدينة غزة، كان عامل قلي "فلافل"، يقضي أكثر من 9 ساعات بالقرب من مقلاة كبيرة فوق موقد الغاز، مقابل أجرة شهرية لا تزيد عن 150 دولار.

قبل 3 أشهر، بدأ لؤي يشعر خلال عمله أو بعد انتهائه بضيق تنفس رهيب، وكأن صدره مُتصلب، تصحب ذلك نمنمة حادة في وجهه، مع حالة من عدم التركيز، على حد وصفه. بعد أن ذهب إلى طبيب أمراض صدرية، وجد أنه يعاني من التهابات شديدة في الصدر، ولدت  بدورها، حساسية مفرطة تجاه الغازات الناتجة عن القلي، وتعرضه المباشر لها لفتراتِ طويلة.

يقول الشاب: "أكثر من 9ساعات واقف أمام السيرج المقلي، حتى هواية صغيرة ما في عندي لتخفيف حدة غازات القلي". مضيفًا، "الدكتور قال لي مازحًا، يا لؤي تنكة سيرج متربعة على صدرك، لازم تترك العمل، فورًا وإلا تضاعفت لأكثر من ذلك".

على مضض، أخذ لؤي بنصيحة الدكتور في ترك العمل، يضيف، "أساسًا لولا حاجتي المادية لما عملت هنا أصلاً، ندرس جامعة ونقلي فلافل والله عال!".

مؤخرًا، فتحّ لؤي بسطة صغيرة ، في حديقة الجندي المجهول وسط القطاع، يُعد فوقها حسابات تكلفة الهجرة من القطاع، بعد أن وجد نفسه بلا مستقبل.

يقول: "بالكاد  بحصل 10 شيقل (3 دولار) يوميًا، ما بقي مكان إلي بهالبلد، بخزن بعض المال وبحاول أستدين من شخص ما حتى أهاجر وأبحث عن فرصة خارج هذا الجحيم".

لكن هل بالفعل تؤثر هذه الأعمال على صحة العاملين بها؟ يؤكد الطبيب المتخصص في الأمراض الصدرية باسل مصباح قاسم، أن السبب الرئيسي لحالات الالتهابات في الرئة والأمراض الصدرية بين العمال، ترجع إلى افتقار منشآت العمل في غزة إلى أدنى شروط السلامة التي تقي العامل سواء من الغبار أو الغازات الناتجة عن الاحتراق.

وبين قاسم، أن الحالات التي تأتي إلى عيادته في مستشفى العودة، تكون في الغالب لعاملين في محلات الفلافل أو مطاحن القهوة والبهارات، أو عمال البناء، والمخابز وعمال الجبص المتمرسين.

أخصائيون: الأمراض التي تصيب العاملين في المطاحن ومحلات الفلافل والمخابز قد تنتهي بالتليف الرئوي أو الفشل الرئوي الكامل

وأكد أن مشكلة الالتهابات قد تتضاعف وتصل إلى مستويات خطيرة، فقد تتراكم الالتهابات وتتطور إلى تليف رئوي، ويمكن أن تنتهي إلى الفشل الرئوي الكامل، إذا أهمل المريض إصابته، واستمر بالعمل تحت ظروف مساعدة على ذلك.

يوافق على هذا الرأي أيضًا طبيب الأمراض الصدرية في مستشفى ناصر، صابر الصرفندي، حيث أكد أن كثيرًا من العمال معرضون لأمراضٍ والتهاباتٍ صدرية مزمنة بسبب بيئات العمل السيئة في غزة، مضيفًا، "بعض العمال الذين يأتون إلينا يعانون غالبًا من تضيق في الشعب الهوائية وهو ما ينتج منه ضيق في التنفس".

اقرأ/ي أيضًا: سائقو ديلفري: حياة ع الكف ولا حقوق

وبين الصرفندي، أن تهميش الحالة الصحية التي تسببها بيئة العمل والاستمرار فيها، يعرض أصحاب هذه الحالة إلى التهابات مزمنة والتهاب شعبي مزمن، لافتًا إلى ضرورة مراعاة شروط السلامة للعمال الذي يعملون في بيئات تضر بالجهاز التنفسي، مثل: المطاحن والمخابز ومحلات الفلافل والبناء والجبص، وكل الأعمال التي يتعرض فيها العمال لغبار كثيف أثناء عمله.

رغم أن المادتين "118" و"119" من قانون العمل الفلسطيني، تنصان على  أنّه إذا منعت إصابة العمل، العامل من أداء عمله، يستحق العامل 75% من أجره اليومي عند وقوع الإصابة، طيلة عجزه المؤقت، ويتكفل صاحب العمل بعلاج العامل المصاب إلى أن يتم شفاؤه، إلى جانب تغطية كافة النفقات العلاجية اللازمة بما فيها نفقات الخدمات التأهيلية ومستلزماتها، إلا أن أصحاب العمل في غزة لا يأخذون القوانين على محمل الجد.

عندما عرضنا هذه الشهادات على وزارة العمل، اعترف القائم بأعمال مدير التفتيش والحماية شادي حلس بوجود انتهاك كبير لحقوق العمال في غزة، لكنه برره بالظروف الصعبة التي يمر بها القطاع، مضيفًا، "نعمل قدر الإمكان على معالجة هذه الظروف".

وزارة العمل: نعم يوجد انتهاك كبير لحقوق العمال في غزة

وبين حلس، أن العائق أمام عمل الوزارة وإنفاذ القانون بشكل صارم هو نقص الكادر الوظيفي وصعوبة الأوضاع المعيشية في غزة، لكنه استدرك بأن الوزارة على استعداد لمتابعة حالة العامل إذا تقدم بشكوى ضد صاحب العمل.

من جانبه، أفاد رئيس نقابة العمال سامي العمصي بأن النقابة تنفذ متابعات مشتركة مع وزارة العمل بشكلٍ دوري، لكنه لم يستغرب من الانتهاكات التي تحدثنا عنها، وقال: "قرابة الـ90% من منشآت غزة لا توفر أدنى شروط السلامة، ما يعني أنه بالتأكيد سيصل العمال لهذا الحال".

نقابة العمال: 90% من عمال غزة لا تتوفر لهم أدنى شروط السلامة، والجهات الرسمية لا تتعاطى بجدية

وأشار العمصي إلى أن النقابة رغم أنها تتابع مع وزارة العمل الأوضاع في غالبية منشآت القطاع، "إلا أنها تبقى عاجزة بسبب عجز نفاذ القانون أمام ضيق الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في القطاع" حسب قوله.

وتابع، "في أكثر من مرة، حاولنا التعامل بحزم مع هذه الأمور، لكن الجهات الرسمية، لا تتعاطى بجدية، انطلاقًا من الأوضاع الخاصة التي يعيشها القطاع"، مضيفًا، "إذا الحكومة نفسها، توظف عمال نظافة وفي قطاعاتٍ أخرى براتب لا يتجاوز الـ 700 إلى 900 شيقل شهريًا، يعني أقل من الحد الأدنى الذي حدده وزير العمل مأمون أبو شهلا عام 2014، بـ 1300 شيقل، وتنتهك بذلك قانون العمل، كيف ستدافع عن هذه الحقوق؟".

"موضوع الأوضاع الخاصة في القطاع والحصار، أصبح شماعة لانتهاك حقوق العمال" وفق العمصي، فالعمال بلا تأمينات ولا حد أدنى للأجور، "كأن الوحيد الذي يجب أن يتحمل معاناة القطاع هو العامل" كما قال.

وأكد العمصي، أن النقابة علمت بشهادات مماثلة، لكنها تعجز عن التحرك فيها لأسبابٍ كثيرة، أبرزها أن العمال يخشون فقد عملهم، وهم يعلمون بعدها أنهم سينضمون لأكثر من 300 ألف عاطل عن العمل، "وهي النقطة نفسها التي ينطلق منها أصحاب العمل في ابتزاز عمالهم".

وأشار إلى أن النقابة طالبت في أكثر من مرة بإنشاء محاكم عمالية خاصة بقضايا العمال، لتسهيل التحرك في قضايا العمل قانونيًا، وعدم ترك مساحة لأصحاب العمل لمفاوضتهم على فتات حقوقهم، واستغلال حاجتهم، لكن وزارة العمل تُبرر عدم الاستجابة لهذا الطلب بالعجز في عدد القضاة وضعف الإمكانيات المتاحة.


اقرأ/ي أيضًا: 

خريجو صحافة للعتالة والعمل بتراب المصاري في غزة

حفر آبار الصرف الصحي: الخطأ الأول هو الأخير

عمال نظافة بعربات في غزة: لا حقوق ولا مقومات للسلامة