18-سبتمبر-2019

سجن عوفر غرب رام الله، كما يبدو من تلّة مقابلة

نافذةٌ واحدةٌ مطلة على الشارع الممتدّ جوار سجن "هشارون"، قرب قرية أم خالد المعروفة اليوم باسم "نتانيا". لم نكن نرى من خلال تلك النافذة إلّا بصعوبة بالغة؛ ففكرة السجن تفرض العزل الكليّ على أي اتصال مع البيئة المحيطة أو معايشة أي من مظاهرها.

بيئته معزولة عن الأرض والسماء، وساحة "الفورة" مسقوفة بشبك حديدي تصطدم به عين الناظر إلى السماء ويمنع الزراعة فيها، كما تتصرف إدراة السجن بصرامة في حال دخول أي حيوان أو طير داخل القسم، فلا يرى الأسير طوال اعتقاله سماء صافية، ولا يملك أن يرى شمس البلاد في شروق أو غروب، ولا استعادة بهجة الطفولة في اللعب بالتراب أو قطف أول الثمر. هذه تفاصيل تبدو عادية في حياتنا اليومية لكنّها في حياة الأسرى حلمٌ.

      العزل الكليّ عن المحيط، وتقييد حركتك في حيّز مكانيّ ضيق أساس فكرة السجن  

في زنزانة رقم 5، داخل قسم 11، النافذة الوحيدة كانت مغطاة بعازلين حديديين، الأول شبك بثقوب حجمها بالكاد يسمح بمرور إصبع السبابة، والثاني قطعة حديدية تتخذ شكل متوازي مستطيلات، به من 4-6 فتحات تسمح بمرور الهواء وقليل من الشمس تدخل بعض الزنازين، ولا تدخل أكثرها.

كانت الزنزانة في الطابق الثاني من القسم، كنت أسمع صوت السيارات على الطريق السريع المجاور، فأدرك أن صباحًا بنكهة أخرى يحلُّ خارجًا، أنظر من تلك الفتحة المشوّهة المسماة "نافذة"، لعلّي أرى أي مساحة من البلاد القريبة البعيدة. 

بعد أسبوعين في هذه الزنزانة نقلت إلى أخرى في الطابق الأرضي، نافذتها لا تسمح برؤية أي شيء على الإطلاق. في تلك الأيام، كنت قد وصلت في قراءة الأعمال الكاملة لكنفاني لرواية "عائد إلى حيفا" بالتزامن مع انتظاري لتنفيذ قرار نقلي إلى سجن "الدامون" الجاثم على أراضي  قرية "دالية الكرمل" في حيفا. 

    لا يرى الأسير سماء صافية، ولا يملك أن يرى شمس البلاد في شروق أو غروب    

وبين انتظاري للقاء حيفا؛ حلم الطفولة الأجمل وتجربة الشباب الأقسى، وبين سعيد الذي تتداخل صوره في مخيّلتي بين ما يصفه غسّان وما تجسّد  بصوت سلوم حداد في مسلسل عائد إلى حيفا، كنت أغرق في لجّة مشاعر متداخلة يصعب فصلها ووصفها، وأظلُّ أقرأ حتى أنام. 

فجر 28 حزيران/ يونيو 2016 غفوت، لأستيقظ في التاسعة صباحًا على بلاغ من إدارة السجن بوجوب استعدادي فورًا للنقل. مضيت ألاقي حلمًا طالما داعب مخيّلتي برؤية البلاد ولو وأنا في القيد.   

انطلقت "البوسطة" تشقّ طريقها نحو الشمال، تحوّلها شمس حزيران إلى جهنم متنقلة فيما أُطِلُّ من النافذة المغطاة بشبك حديدي أسود، أجرب أن أقدِّر أين أنا مما يظهر من يافطات في الشارع نادرًا ما نجحت في قراءتها لأني أحاول النظر إلى بلاد كاملة من ثقب ضيّق، كما أحاول حفظ اتّزاني رغم قيد يدي وقدمي لئلا أسقط أرضًا في البوسطة. 

     سعيد وصفية وأنا، ثلاثتنا نعود في حزيران اللاهب إلى حيفا، تختلف تفاصيل الحكاية بيننا  لكنها تشترك في المرار والقهر   

ضاقت نفسي أن أمضي في بلاد هي بلادي ولا أعرف من مجاهلها شيئًا، إنها سياسة إشعار الفلسطيني أنّه نكرة، لكن ابن البلاد يعرفها بقلبه كما تعرفه.

استمرّت الرحلة من التاسعة صباحًا إلى الثالثة بعد الظهر، تخللها توقّف طويل في سجن "الجلمة" الواقع بين جبلين يبدوان كغابة. في كلّ المرات التي كنت أمر فيها من الجلمة كانا مفرّي من جحيم الانتظار الذي يمتد أحيانًا لما يزيد عن أربع ساعات، أن أتأملهما وأبتعد في التأمُّل، ويحزُّ في نفسي شعور قاتلٌ بأني أرى البلاد على هذا النحو. 

غادرت "الجلمة" قرابة الثانية والنصف ظهرًا، وها هو سجن الدامون. ها هي حيفا التي كانت حلمًا، فصارت في أيام السجن حقيقةً مرّة جارحة، يصاب بها المرء مرةً فتظل ملازِمَةً إلى الأبد. 

السجن وسط حرش جبليّ كثيف الشجر مذهل الجمال، ووراء الجبل، هناك كان بحر حيفا الذي لم أره يومها.

هذا المشهد الذي يمكنني رؤيته لدقيقة واحدة هي المسافة بين مبنيين من مباني السجن، سيظل طوال الأيام القادمة في السجن كنزًا أنظر إليه طوال هذه الدقيقة دون أن أعاني من اصطدام نظري بأسلاك وقضبان. أنظر لالتقاء الجبل بالسماء، وأملأ رئتي بهواء حيفا الذي لا تلوثه رائحة القضبان، لدقيقة فقط هي المسافة بين باب وباب. 

     إنه الأمل بلقاء ولو عن بعد، بيدين وقدمين مقيدتين، أمل قد لا يتحقق إن رغب سائق بوسطة السجن بتغيير الطريق      

حين وصلت قسم 61 في سجن الدامون، جاء السؤال المفاجئ حينها "سلام شفتي البحر وانتي جاية؟". بدا السؤال بنبرة من يريد أن يطمئن عن غائب له في ديار بعيدة، سؤال فيه شوق وحنين وبحة حزن. 

وقتها أدركت أنّ لقائي الأول في عمري بالبحر سيكون في رحلتي القادمة إلى محكمة عوفر ليكتمل لقائي بهذا الجمال الجريح. لا شيء كان يدفعنا لانتظار المحكمة سوى دقائق قليلة لا تزيد عن خمسٍ، هي التي تمر فيها البوسطة من شارع يصل سجن الدامون بسجن الجلمة، يطلُّ على البحر. إنه الأمل بلقاء ولو عن بعد، بيدين وقدمين مقيدتين، أمل قد لا يتحقق إن رغب سائق البوسطة بتغيير الطريق.

قبل حلول موعد سفر أي أسيرة إلى المحكمة تبدأ التوصيات لها بأن تركّز جيّدًا في الطريق لتفوز برؤية البحر، حتى إذا عادت كان من ضمن الأسئلة الثابتة لها: "شفتي البحر؟" وكان مؤشر الحظ الجيّد لمن تراه ذهابًا وإيابًا. 

تقاسمت الطريق مرة مع هيفاء أبو صبيح التي اعتقلت لـ 16 شهرًا. اعتدنا كُلّما صعدنا في البوسطة، الجلوس بوضعيّة ثابتة؛ ننظر من النافذة على أمل رؤية البحر رغم قيودنا التي مع حركة البوسطة تجعل حفاظنا على اتزاننا أمرًا بالغ الصعوبة، وبمجرد أن يبدأ البحر بالانكشاف لنا من بين المباني، حتى يعلو صوت فيه بهجة رغم المشقة: "البحر البحر، هي البحر"! ثم يتلاشى.

كُلّما لمحته من البوسطة أصاب بشعور متناقض، يشبه تمامًا أول ثواني الإدراك التي نصحو فيها من حلم ظنناه لوهلة حقيقة، ثم اختفى كسراب. 

       ضاقت نفسي أن أمضي في بلاد هي بلادي ولا أعرف من مجاهلها شيئًا، إنها سياسة إشعار الفلسطيني أنّه نكرة     

كنت طوال فترة سجني أواسي نفسي على مشقة البوسطة، بأنها تعويض لي عمّا أفتقده من تجول في البلاد ولذة استكشاف عوالمها، حتى وإن كان تجوالًا يتكثّف فيه القهر والحرقة، كالوارد الماء بلا ارتواء.

مطلع أيلول/ سبتمبر أطلقت مجموعة تجوال سفر، تجوالاً في قرية رافات شمال القدس المحتلة، خلال المسار أطل المتجوّلون على سجن عوفر الذي يغيِّب وراء أسواره أقارب وأصدقاء لهم ومنهم من كان فيه يومًا ما. في ذلك اليوم، انتشر فيديو لشبّان حاولوا النداء بأعلى صوتهم على أحد أصدقائهم الأسرى هناك، ولقرب المسافة بدا من الممكن جدًا سماع صوتهم. 

صرت وكلما مشيت في مسار، وحدي أو مع آخرين، يطربني صوت الخطوات على التراب، بينما يملأ عقلي صوت البوسطة والقيود وأنا أنظر للبلاد، تناقض بشع لكنّه قائم في حياة شباب كثر.

يوم إطلاق سراحي، رأيت السجن من الخارج لأول مرة، فبكيت بكاءً حارقًا؛ نظرت لحيفا وللبحر مرةً أخيرةً، واختفت البلاد "وراء ستار من الدموع" حين أدركت أنني عشت سبعة أشهر في هذا الجمال ولم أرَ منه شيئًا، وأنّ صاحبات السجن اللواتي تركتهن ورائي سيعشن أزمانًا متفاوتة قد تصل لعقد ونصف وسط هذا الجمال دون أن ينعمن به. 


اقرأ/ي أيضًا: 

سجن النقب الصحراوي.. أحلام بالثلج

"أدب السجون".. كيف يرى النور؟

ادفع الباب وادخل لترى كم غيّروا صفد