28-أغسطس-2018

في إحدى رحلات العودة من رام الله إلى بيت لحم بسيارة الأجرة، جلست بجانبي امرأةٌ عَجوز آتيةً من محافظة طولكرم إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبيّة في بيت لحم لزيارة أحد أفراد عائلتها، فيما تتضّح المعاناة والبؤس على تجاعيد وجهها التي تعجز العَين عن حصرها وهي تحكي لنا في هذه الرحلة التي تكاد لا تنتهي عن معاناة ابنها في المحاكم الفلسطينية، وكيف لازال يذهب أسبوعيًا من طولكرم إلى محكمة نابلس لتورّطه في قضيّة سرقةٍ منذ أن كان قاصرًا قبل عقدٍ من الزمن، ليعيشوا في أرقٍ وتعبٍ نفسيّ مستمرّ يضاف إلى جحيم معاناتهم.

فالقانون الفلسطيني الذي لازال الفلسطينيون غير قادرين على تقبله بعد أن عاشوا لمئةٍ عامٍ يقاومون ويرفضون ويتمرّدون على قوانين المستعمرين، لم يُحقّق لهم العدل الذي لطالما سَمعوا عنه وطلبوه، فتلوّث السُلطتين القضائيّة والتنفيذيّة بالسياسة، وموت السلطة التشريعية، وكتم صوت السلطة الرابعة (الصحافة) وشراء الاتحادات والنقابات حوّل "الدولة الفلسطينية" المستقبليّة قبل أن تولَد إلى مستنقعٍ قذرٍ يُسيطر قلةٌ فيه على المال والسُلطة والقانون، وبدل أن تُصبح حياة الناس أسهل وأكثر راحةً على كافّة الأصعدة، فإنها ازدادت صعوبةً وتعقيدًا أكثر من تعقيدات الوضع السياسيّ.

  ضعف القانون الفلسطينيّ وهشاشة مؤسساته، جعل المواطنين متمسكين بالقضاء العشائريّ   

فأبسط القضايا قد تتجمّد وتموت عبر سنواتٍ من المماطلة في قاعات المحاكم، وأكبر الحقوق قد تتلاشى كقطعة زُبدةٍ سائحة من مَكر المُحامين والثغرات القانونيّة التي لا تجد من يسدُّها، فيزداد الظالمون ظُلمًا، ويزداد الضُعفاء ضَعفًا، وتتحوّل النار في قلوب الثكلى إلى جليد، فيما يَنظر أصحاب الحقوق إلى آكلي حقوقهم وهم يزدادون جاهًا وثروةً خارج القُضبان.

ضعف القانون الفلسطينيّ وهشاشة مؤسساته، جعل المواطنين متمسكين بنظامٍ عربيّ قديم النشأة، حيث يلجأ الفلسطينيون بمباركةٍ رسميةٍ إلى القضاء العشائريّ في حلّ مشاكلهم وقضاياهم الاجتماعيّة، وخصوصًا قضايا القتل والعِرض والاعتداء على الممتلكات، حيث يمتاز القضاء العشائريّ بسرعةٍ في تطبيق الأحكام مقارنةً بمؤسسات الدولة القانونية، وعلى الرغم من أن معظم أحكامه مستمدّةٌ من الشريعة الإسلامية فإن بعض الأحكام الأخرى التي لازالت متوارثةً من أيّام الجاهليّة لا تتناسب مع التطوّر الاجتماعيّ العربيّ في القرن الحادي والعشرين.

كما أن الظُلم قد يَطال أفراد عائلات المُذنبين الذين ليس عليهم وِزر، بالتزاماتٍ ماديّةٍ تعجيزيّةٍ لا يَقدر أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة على سدادها؛ حقنًا للدماء عن طريق تعظيم شأن القتل وتبعاته في نفوس الناس، إلا أن هذه القاعدة لا تنطبق على العائلات والعشائر الغنيّة التي لن تواجه مشاكل ماديّة في سداد "الدِيّات"، مما يعني أن الغنيّ يَقتل أكثر والفقير يُقتل أكثر.

   نزاهة القضاء العشائري مُعرّضةٌ للاختراق مثل أيّ شيءٍ آخر بالمال والسياسة  

ونزاهة القضاء العشائري مُعرّضةٌ للاختراق مثل أيّ شيءٍ آخر بالمال والسياسة، فتحت عباءات بعض الشيوخ وبين فناجين القهوة التي طغى سوادها على احمرار دمّ الأبرياء، تدور المصالح وحُزَم الدنانير من يدّ ليدّ، وتُعقد صفقات السَلَف والدَيّن بين لبّاسي العِقالات ليستدّوا فيما بينهم على حساب الضحايا المغدورين، وليبقى الزمن وحده الذي يكشف النظيف والفاسِد من قاضي المَنشَد حتى الكفيل والشاهِد.

ولا تسألوا عن العدل عندما تموت سَيّدةٌ بخطأ طبيّ من طبيبٍ غير مؤهلٍ بشهادة اللجان المختصّة، وفي حين أن ابنها مُطاردٌ جنائيًا بقانون الجرائم الالكترونيّة بتهمة شتم طبيب، فإن الجزّار القاتل صاحب الباع الطويل في أشياء غير الطبّ حرٌّ على رأس عمله.

  فلا عدل لنا ولا نزاهة لنا ولا شفافيّة طالما لازلنا نسكت على فسادنا، وكلنا أصحاب أيادٍ ملطّخة بسكوتنا   

ولا تسألوا عن النزاهة عندما يُفرج عن تاجر المُخدرات وسلاحه المشبوه وسمومه من الحشيش والقنّب وحُبوب "المَبسُوطون" في ساعات، وتُغمض الأعيُن عن الفاسدين من المقاولين الذين حوّلوا شوارعنا إلى مقابر، وبِمكوسٍ يأخذها من تقف على أكتافهم النُسور والنِجم ليتنعّم من باع أرض جدوده للمستوطنين باستثماراته الجديدة. ولا تسألوا عن الشفافيّة عندما يُبتزّ مواطنٌ ليتحمّل جريمة قتل فتاةٍ تآمر الجميع على إغلاق فمها للأبد، بعدما أغلقوا آذانهم عندما صرخت بأعلى صوتها رفضًا لفساد من ظنّوا أنهم احتكروا الوطن والوطنيّة.

فلا عدل لنا ولا نزاهة لنا ولا شفافيّة طالما لازلنا نسكت على فسادنا، ولا خير لنا ولا حريّة لنا ولا قوّة حتى نُظهّر أنفسنا بأنفسنا ونُصلح أحوالنا، فكلنا أصحاب أيادٍ ملطّخة بسكوتنا وقبولنا، والسكوت علامة الرضى.


اقرأ/ي أيضًا:

الإعدام في فلسطين.. الجدل الساخن والمهم

كيف تدحرجت قضية المهندسة نيفين وصولاً لقتلها؟

فضيحة المهندسة أم هندَسةُ الفضيحة؟

نفين العواودة.. ضحية الجريمة وممحاتها!