08-يناير-2019

كانت الساعة تُشير إلى العاشرة ليلاً حينما شعر أيمن بتعبٍ شديد بعد عبوره طويلاً شوارع وعرة في منطقة حزمة قرب الخط الفاصل الذي يربط الخليل بأراضي الـ48، متخفيًا باحثًا عن مأوى آمن، ولم يكن بطبيعته يثق بأحدٍ، بينما كان يحاول أن يزوي نفسه في مكانٍ غير مكشوفٍ لجنود الاحتلال، فرأى منزلاً بدا هادئًا أو مهجورًا، تقدم إليه وطرق الباب محرجًا حذرًا، وإذ بها عجوز، سألته بعد رد السلام: من أنت؟ أجابها: "أنا تائه يا حجة".

لم تشأ  "الحاجة أم جبريل" -التي تعيش وحدها في منزلها المتواضع بعدما تزوج جميع أبنائها- أن توجه المزيد من الأسئلة لأيمن، لكن قلبها اطمأن له وآثرتْ ألا تخبره بما أدركته من أمره، فسمحت له بالإقامة فيه وتعاملت معه وكأنه تائه.

المطاردون، ظاهرة من ظواهر المقاومة تشكّلت منذ النكسة، أصبحت خلالها كهوف الضفة، وغابات شجر الصنوبر، ملاذًا لمن يطاردهم الاحتلال

كان ذلك في العام 1998، حينما كان أيمن الشراونة مطاردًا من الاحتلال الإسرائيلي وهو في العشرينات من عمره، وفي منزل تلك العجوز عاش الشراونة 12 يومًا متخفيًا عن عيون الاحتلال، وكانت تلك محطة الأمان الوحيدة التي صادفها طوال مسيرة المطاردة.

اقرأ/ي أيضًا: "لا تزر أحدًا، لا تستقبل أحدًا".. عن تجربة الاختفاء فلسطينيًا

و"المطاردون" ظاهرة من ظواهر المقاومة الفلسطينية تشكلت عبر مراحل مختلفة منذ الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربیة وقطاع غزة في عام 1967، أصبحت خلالها كھوف الضفة الغربیة، وأزقة غزة، وغابات شجر الصنوبر، ملاذًا للشباب المطاردین. لكن مع مرور السنین، ضاقت الأرض بالمطاردین خاصة بعد أن طوّر الاحتلال تقنيات الملاحقة والرصد والتجسس، وزاد من زراعة عملائه في كل كمان.

وفي السنوات الأخيرة، برز مطاردون جُدد من الجيل الشاب في الضفة الغربية؛ كان الاغتيال مصير أغلبهم، كما حدث مع محمد العاصي الذي استُشهد عام 2014، ومحمد الفقيه الذي استُشهد عام 2016، وباسل الأعرج الذي استُشهد عام 2017، والشهيدين في عام 2018 أحمد جرار، وأشرف نعالوة، ثم عاصم البرغوثي، أول المطاردين المعتقلين في عام 2019. فيما شكّل نشأت ملحم حالة خاصة عندما نجح في الاختفاء عن عيون الاحتلال أسبوعًا داخل الخط الأخضر، قبل أن يتم اغتياله عام 2016.

مطارد وعجوز

الشراونة المولود عام 1976، تحدث "عن مطاردي زمان" قائلاً: "كنا على قدر الرسالة التي كنا نحملها كمطاردين، وهي أننا نتخفى لنستمر بمقاومة الاحتلال دون أن ينال منا. كنا في ذات الوقت محرجين في معظم الأحيان، خاصة حينما كنا نلجأ للاختباء بمنازل القرى التي نعتبرها بعيدة لحد ما عن المنطقة التي يبحث فيها الجيش عنا".

يضيف، "كنت أتنقل بسهولة نسبيًا من منطقة لأخرى، لم يكن هناك جدار فصل ولا حواجز، كانت الخليل مفتوحة على أراضي الـ48، وفي المبيت كنا نطرق أبواب الناس على استحياء، لكنهم سرعان ما كانوا يحتضنوننا".

أيمن الشراونة

يستحضر قصته مع العجوز "أم جبريل" التي عاش عندها 12 يومًا بينما كان الجيش يبحث عنه "بجنون"، مبينًا، "لكني شعرت بأمان غير طبيعي في بيتها، كانت أجمل محطة في حياتي، فأم جبريل كريمة أصيلة توضع على الجرح يطيب".

كانت "أم جبريل" تخرج لشراء الطعام والشراب وتوفير الملابس والأغراض اللازمة للشراونة، بعد أن توصيه بالتزام المنزل لحين عودتها، بينما كان هو يعتقد أنها تعامله كتائه.

يقول: "كانت نشيطة تتحرك في كل مكان توّفر لي ما أريد، وفي لحظة وداعي قرأت في عيونها أنها كانت تعرف بأنني مطارد رغم أنني أخفيت سلاحي ولم أظهر لها أي شيء، شعرت كم هي كبيرة وأصيلة، رددت عليها السلام ولم أقطعها حتى بعد إبعادي لغزة، وقبل عامين وصلني خبر وفاتها وكأنني فقدت شيئًا كبيرًا في حياتي".

أيمن الشراونة: المخزون البشري للمقاومين في الضفة كبير، لهذا عاد اليوم المطاردون لمقارعة الاحتلال لكن بمهمات أصعب من مهماتنا

وأضاف في وصف المطاردين، "المخزون البشري للمقاومين في الضفة الغربية تحديدًا كبير، وكبير من زمان، لهذا عاد اليوم المطاردون لمقارعة الاحتلال لكن بمهمات أصعب من مهماتنا".

اقرأ/ي أيضًا: 3 فدائيين من "زمن نابلس الجميل"

ويستذكر الشراونة أنه احتمى عام 1999 مع عددٍ كبيرٍ من المطاردين في بيت إسماعيل مسالمة بالخليل، وهو أسيرٌ في سجون الاحتلال حاليًا، موضحًا أن جيش الاحتلال اقتحم المنزل، فاستشهد المطارد إياد البطاط ومواطنٌ آخر، واعتُقل مجموعة من الشباب، وأُصيب ثلاثة".

أما أيمن فاعتقلته قوات الاحتلال عام 2002 بتهمة تنفيذ عملية فدائية، وقد صدر بحقه حكمٌ بالسجن الفعلي 38 عامًا، قبل أن يُحرَّر في صفقة "وفاء الأحرار"، إلا أن جيش الاحتلال أعاد اعتقاله، فأضرب عن الطعام 260 يومًا حتى أبعده الاحتلال إلى قطاع غزة.

"أن يكون مطارِدًا لا مطارَدًا"

"كان سلاح أو خطف أو قتل جنود، وكلها أدوات تعود لطاقة وقدرة المطارد نفسه" يقول جاسر البرغوثي من كوبر في رام الله، أحد الذين طاردتهم "إسرائيل" سابقًا وحكمت عليه بالسجن 9 مؤبدات، وهو خال عاصم البرغوثي، وصالح الذي أعلن الاحتلال استشهاده بعد اختطافه حيًا من سيارته في شهر كانون أول/ديسمبر 2018.

جاسر البرغوثي

قضى جاسر 9 سنوات في الأسر قبل الإفراج عنه في صفقة "وفاء الأحرار" وإبعاده لغزة. يقول: "المطارد كان بين شقين هما: أمن المطارد، ونوع المقاومة التي يختارها، وكل شخص له تجربته".

جاسر البرغوثي: المطارد ينجح إذا تبنى عقلية المُطارِد لجنود الاحتلال لا المطارَد منهم

ووفق خبرته في مطاردة جنود الاحتلال قال: "المطارد ينجح إذا تبنى عقلية المُطارِد لا المطارَد"، أي أن يكون هو مطاردًا لجنود الاحتلال وليس مطاردًا منهم، ذلك لأن "الزمن يعد للمطارد في كل ثانية وهنا يكون قد دخل حرب الأدمغة".

وبناءً على القاعدة الأمنية السابقة، حكم البرغوثي على المطاردين زمان قائلاً: "كثير منهم استنفد طاقته في بحث كيف يحمي نفسه على حساب تنفيذ العمل، لكن هناك من نجح. ومن نماذج المطاردين، إبراهيم حامد، لأنه جمع بين الاثنين، حماية نفسه وتطوير عمله حتى استنفد طاقة الشاباك".

إصاباتهم واحتضان المنازل

"كانت أيامًا عصيبة لكنها جميلة" قال إبراهيم أبو علي مستحضرًا تجربته في مقارعة جنود الاحتلال في قطاع غزة، قبل الانتفاضة الأولى وخلالها، وقد وصف هذه المرحلة بأنها "الزمن الذي كانت الحالة الفلسطينية فيه متماسكة".

إبراهيم أبو علي

يروي أبو علي، "حاصرنا الجيش مرة في أعنف أيام المواجهات في منطقة دوار أبو حميد بخانيونس جنوب القطاع، كانت المفترقات مليئة بالجنود، انحصرنا تحديدًا في جامع السنية أنا ومجموعة من الشباب. كان معي شاب من عائلة جرغون صحبني في مسيرة دوار أبو حميد، وحينما حوصرنا في الجامع هو من دلّنا على طريق الخروج من النوافذ لأنه من سكان المنطقة، طلعنا على بيت كان فيه سيدة وزوجها، استضافتنا وصارت تهوّن علينا".

اقرأ/ي أيضًا: نادر العفوري.. حين يُصبح الجنون خلاصًا

بعد انسحاب الجنود عاد أبو علي وأصحابه لمطاردتهم فلجأوا إلى مدرسةٍ على دوار بني سهيلا، كان الجدار مليئًا بالزجاج المكسّر فجُرحوا من سرعة القفز عليه بسبب قرب الجنود من المنطقة، حتى ساعدهم أشخاص من عائلة الفرا وعالجوهم.

وأضاف، "كان الشهيد ناجي أبو لحية أكثر من أوجع الاحتلال، لم يستسلم وقام بتصفية عدد من الجنود حتى استشهد. ومن الخالدين أيضًا عدنان أبو حماد، وهو من نواة المطاردين".

اعتُقل أبو علي مرارًا، وآخر اعتقالاته كان بتاريخ 10 آب/أغسطس عام 1994، حيث صُدر بحقه حكمٌ بالسجن مدى الحياة، بتهمة قتل جندي، قضى منها 20 سنة حتى أفرِج عنه ضمن أسرى ما قبل أوسلو الذين أفرج الاحتلال عنهم باتفاقٍ مع السلطة الفلسطينية، كأحد شروط عودة المفاوضات بين الجانبين عام 2013.

مطارد المخيم والأرياف وقواعد العمل

محمود مرداوي، المبعد من الضفة لغزة بعد 20 سنة من السجن، تحدّث عن الحنكة التي كان يمتاز بها المطاردون في تنقلهم قائلاً: "كانت سياراتٌ تنقلنا من مكانٍ لمكانٍ حسب تواجد الجنود والحالة الأمنية، وإذا لم تأت السيارة للمطارد في موعدها المحدد يغادر مكانه على الفور".

محمود مرداوي

يعلل ذلك بـ"الضرورة والخبرة الأمنية، فالتأخير يعني احتمالين، إما أن السائق شكّ بسيارةٍ تراقبه ففضّل ألا يأتي بها إلى المكان، أو أنه تم القبض عليه وقد يأتي مرغمًا من الجنود إلى المكان بأي لحظة".

يُفرّق مرداوي (49 عامًا) بين مطاردي الأرياف والمخيم والمدينة مبينًا، "في الريف كنا نتحرك بسهولة أكثر، لكن كان علينا في كل مكان نمر عليه ألا نترك أثرًا عنا، سواء مكان نارٍ موقدةٍ أو معلبات أكل، وحتى أصغر الأمور كنا نخفيها".

محمود مرداوي: بعض المطاردين استخدموا مكياجًا يُغير ملامحهم، وآخرون انتحلوا شخصياتٍ وزوّروا بطاقات شخصية

وأضاف، "كان المطارد يغيّر مكانه كل يومٍ تقريبًا، على اعتبار أن معلومة وصلت للاحتلال عنه، وهذه ضمن قواعد العمل الأمني للمطاردين؛ التي كان يجب أن يعتمدوها كليًا حتى لا يتم اعتقالهم".

ويشرح بعضًا من أساليب التخفي والحذر، ومنها حلاقة اللحية، وتغيير الألبسة في كل منطقة، "وكان البعض يضعون مكياجًا معيّنًا يغيّر ملامحهم، مثلاً من أبيضٍ إلى أسمرٍ أو العكس، إذا كانوا سيمرون على نقطة لليهود"، كما كانوا يمتنعون عن تناول الأكل والمشروبات من أي جهة غريبة، وعدم تكرار الأماكن التي يختبئون فيها، "وإذا اضطررنا لركوب سيارة عامة كان يجب أن تكون بين سيارتين أمامها وخلفها  لضمان التصرف في أي طارئ".

ويُبين أن بعض "مطاردي زمان" كانوا ينتحلون شخصيات رجالٍ آخرين، وتحديدًا في المناطق البعيدة عن المناطق التي ينتمون لها، فيخلقون تعايشًا في المنطقة الجديدة، ويزورون بطاقات شخصيات، "وهذا شيءٌ نجح فيه مطاردون قلة" كما قال مرداوي.

ويضيف، "الناس كانوا يحتضنوننا ويخدموننا بأعينهم، لكن البعض كان يرفض مبيتنا لسبب أن في البيت بنات، فكانوا يخشون من حديث الناس، خاصة وأن أحدًا لا يعلم أن في منزل جاره مطارد غالبًا".

يُذكرنا حديث مرداوي بما فعله الشهيد باسل الأعرج خلال ملاحقته، إذ أفاد صاحب المنزل الذي تم اغتياله فيه بمدينة البيرة أنه انتحل شخصية رجل سويدي من أصول مغربية، وادّعى أن اسمه إبراهيم حجي وقد جاء لفلسطين مع بعثة دولية لأغراض اقتصادية.

احتضان الناس للمطاردين أيضًا لم يتغير، وهو ما يثبته استشهاد أشرف نعالوة في منزل لعائلة بشكار في مخيم عسكر بمدينة نابلس، ثم اعتقال عاصم البرغوثي من منزلٍ لعائلة إدريس في أبو شخيدم قرب بلدته كوبر، دون أن يردع عائلةَ إدريس، مصيرٌ آل بشكار من قبلها بسبب إيوائها لنعالوة.


اقرأ/ي أيضًا:

نادر حسن.. اختفى 26 سنة عن عيون الاحتلال

رام الله: غزلٌ قديمٌ في ثورتها

"خارج الإطار".. حكاية شعب في بحثه عن صورته