04-أكتوبر-2017

43 كيلو مترًا تفصل بين نابلس وجنين، في شمال الضفة الغربية. لا تعد هذه مسافة طويلة، ولا تحتاج كثيرًا من الوقت من أجل أن تقطعها، إذا لم يعرقل حركتك حاجز لجيش الاحتلال، أو أزمة سير طارئة بسبب حادث مثلاً، غير أن ذكريات كثيرة لا بد أن تخطر ببالك وأن تقطع الطريق بين المدينتين، وحكايات كثيرة ستستعيدها وترويها وأنت تمر من جانب القرى، والمستوطنات، بعضها ربما عشتها أنت بنفسك، وأخرى قد تكون سمعت بها من أصدقاء عارفين.

هذا تمامًا ما عشته في رحلتي مع عائلتي إلى جنين، من أجل المشاركة في حفل زفاف هناك، عندما خرجت من نابلس التي تظل مزدحمة يوم الجمعة. فغالبية أحيائها وحاراتها تنهمك في التجهيز لعرس أو حفلة خطوبة أو جاهة. والجاهة لها حكاية أخرى، إذ تحاول كل عائلة جمع أبنائها وحشدهم للظهور بأكبر عدد ممكن كجزء من "العزوة" والاستعراض، وكلما ضاق بهم بيت أهل العروس أو قاعتهم كان ذلك أفضل، حتى لو اضطر غالبيتهم للوقوف ولم يجدوا كراسي يجلسون عليها، وغالبًا ما يظهر شبابها في أبهى صورة، يرتدون أحسن الثياب ويضعون أفضل العطور، حتى السيارات تضيق بها "المغاسل" ليلة الخميس وصباح الجمعة.

بين نابلس وجنين، لا بد أن تتذكر حاجز بيت إيبا الذي كان عنوانًا للإذلال، وأن تشم رائحة المشاوي في محلات دير شرف التي تتنافس في اجتذاب الزبائن

الموقع السابق لحاجز "بيت ايبا" العسكري، أول ما يحرّك الذاكرة، فهو أحد عناوين الإذلال والمعاناة خلال انتفاضة الأقصى. حدثتني زوجتي كيف كانت تنتظر عليه عدة ساعات قبل وصولها من جنين إلى جامعة النجاح، وكيف كان طلبة مجلس الطلبة يوزعون التمور وزجاجات المياه على الصائمين الذين كان جيش الاحتلال يحتجزهم حتى ساعة الأذان.

اقرأ/ي أيضًا: بالصور | رحلة إلى بيت لحم.. عجائب فلسطينية

بلدة دير شرف، محطة أخرى على الطريق تثير انتباهك، فهي تستقبل زوارها عادة برائحة الشواء على جانبي الطريق، وسماؤها تبدو ملبدة بغيوم نار "مناقلها" كيوم شتوي ماطر، والرائحة الزكية هناك هي الوحيدة بالمجان، فيما المحلات تتنافس في اجتذاب الزبائن، وكل يحاول تجميل المكان بطريقته الخاصة وإضاءته الملونة ليلاً.

هذه الرائحة الزكية، زالت تمامًا عندما وصلنا إلى مستوطنة "شافي شمرون"، حيث يظهر على الشارع القريب منها جنود ملونون، منهم الأشقر الأجنبي ومنهم الأسمر الإثيوبي، يقفون خلف مكعبات اسمنتية مدججين بالسلاح والستر الواقية، يغلقون الحاجز حينًا ويجعلونه مفتوحًا أغلب الأوقات، بينما يختفي سكان "المحروسة" الغرباء داخل منازلهم المحجوبة عن الرؤية خلف أسوار عالية وُضعت فوقها أسلاك شائكة مكهربة.

زاد السائق من سرعة السيارة حتى وصلنا إلى برقة، تلك البلدة الوادعة التي تقع منازلها فوق سلسة جبالٍ وتلالٍ متقاربة، برقة الجملية لا تزال منذ 15 عامًا تنتظر ابنها الجميل الأشقر ذو العيون الخضراء، الأسير القسامي سليم حجة، وهو الذي يواجه حكمًا بالسجن المؤبد 16 مرة.

ليس صعبًا بعدها أن تعرف أنك اقتربت من "زهرة الفنجان"، فرائحته الكريهة وأسراب الطيور التي تحوم فوقه كالجيفة تدل عليه كإشارة مرور أنفية وليست بصرية. قد يبدو الاسم مضللاً بعض الشيء، فتظنه اسم متنزه أو حديقة وليس مكبًا للنفايات، ولكن لا عجب، فالكثير من الشعارات والأسماء الجملية تخفي تحت أستارها أهدافًا معاكسة، ألم يسموا الخمر بالمشروبات الروحية؟ والربا صار مجرد "فائدة"، وعلى أي حال فهذا المكب، مثل "شافي شمرون"، لا يأخذان إلا حيزًا بسيطًا من ذاكرة الرحلة وجمالياتها، فواصل طريقك.

بعد حين، ستمحو سيلة الظهر معالم قُبح رائحة "زهرة الفنجان" وآثار وجع "شافي شمرون"، وإذا وصلتها فإنك الآن تتوسط نابلس وجنين، وهي تتبع لجنين إداريًا، لكن قلبها عند نابلس، ومحلاتها التجارية دائمًا عامرة كوقفة عيد، آلاف صناديق العصير والكولا مرتبة فوق بعضها على جانبي الطريق تنتظر نقلها بسيارات الموزعين وتجار "المفرّق"، وذبائح العجل والخراف وطيور الحبش معلقة تنزف دمًا لتوها، ومثلها حي ينتظر مصيرًا مشابهًا. أسعار لحومها الطازجة تنافس غيرها وتسبقهم، منازلها تبدو من عَلٍ غارقة في بحر أخضر من الأشجار، ومئذنة مسجدها الطويلة مشهورة على مستوى شمال الضفة.

سيبقى اللون الأخضر حاضرًا إلى جانبي الطريق، ستشاهد السهول الزراعية ممتدة على طول الأفق كبساط أخضر جميل، لكن ستثير انتباهك نبتة الدخان العربي، وهذه يُمكن القول إنها أول ما سيخبرك بأنك أصبحت قريبًا جدًا من جنين، فالدخان العربي مرتبطٌ بها، ومن تجارتها الهامة أيضًا، رغم سوء سمعته بين كثير من الناس، ونبتته تحرق الأرض قبل رئات المدخنين، ورئات من يجاورونهم أيضًا بسبب رائحته القوية، ثم ما يلبث كل ذلك أن يختفي، لتظهر بدلاً منه معارض السيارات المقامة على جانبي الطريق.

بين نابلس وجنين، ستذكرك قبور شهداء الجيش العراقي عند مثلث الشهداء، أن فلسطين كانت في غابر الزمان قضية العرب المركزية

ستصل بعد ذلك مثلث الشهداء، لتتحرك الذاكرة مجددًا على حساب الحاضر، فهنا ترقد بسلام جثامين عشرات الجنود من الجيش العراقي، لتذكّرك بأن فلسطين كانت في غابر الزمان قضية العرب الأولى المركزية، عندها استُشهد الجنود العراقيون متجاهلين عبارة "ماكو أوامر" الشهيرة التي كان صداها يتردد في آذانهم.

اقرأ/ي أيضًا: العيزرية: معجزة للمسيح وكنيستان بينهما مسجد 

ارجع من الذاكرة إلى الحاضر مرة أخرى، واصل سيرك، لترى عشرات الإبل تربض في مزرعة خاصة يعتاش صاحبها على حليبها الخاص المطلوب من جميع أنحاء الضفة الغربية. واصل سيرك، حتى يصبح اللون العام أبيضًا طاغيًا بسبب مناشير الحجر، فإذا رأيت ذلك فاعلم أنك الآن في قباطية، البلدة المعروفة بحجارتها المميزة، تنافس حجارة جمّاعين في صيتها، بعضها أملس كالسندس، وأخرى ملمسها خشن كالاستبرق، أما الرخام فيبدو كصرح ممرد من قوارير، مقصوص من جبال بيض وحمر ألوانها.

ستقول لنفسك وأنت ترى هذه الحجارة، إنها حقًا نفط فلسطين، وستواصل السير حتى تبدو لك في الجبال القريبة من خط سيرك، أحراش يعبد، تلك المنطقة التي لولا الشيخ عز الدين القسام؛ لما سمع بها أحد. بين تلك الأشجار خاض الشيخ ورجاله آخر الجولات، وخلف تلك الصخور أطلق القسام رصاصه القليل غالي الثمن، الذي اشتراه بعد أن باع منزله. هناك ردد مقولته الشهيرة "إنه جهاد.. نصر أو استشهاد"، وقاتل حتى الرمق الأخير رافضًا رفع الراية البيضاء، فرحل الشيخ السوري وبقي صيته يتردد على ألسنة كتائبة المقاتلة وجنوده الملثمين، ارتقى في الشمال فحمل رايته أهل الجنوب.

أمتارٌ فقط، ستشاهد منطقة مسيّجة مكتوب عليها تحذير بعدم الاقتراب منها، والسبب وجود ألغام في سهلها القريب من الشارع الرئيس، ألغامٌ قديمة وضعها الاحتلال في أيامه الأولى، ولا تزال صواعقها حيّة تنتظر من يدوس عليها لتسلب روحه.

حجارة قباطية نفط فلسطين، وأحراش يعبد حيث استُشهد القسام، ونفق بلعمة المائي الأطول في فلسطين، إذا وصلتها فاعلم أنك الآن على مشارف جنين

ثم غير بعيد عن أحراش يعبد، ستشاهد أحراشًا أخرى على جانبي الطريق، قبل وصولك منتزه "جنّات"، هذه أيضًا إشارة أخرى إلى وصولك جنين. أشجار السرو والصنوبر مائلة، وتبدو جذورها متشبثة بجبالها المنحدرة، ترفض السقوط وتقاوم الجاذبية والأمطار.

سترى بعد ذلك يافطة تشير إلى "نفق بلعمة"، ذلك النفق التاريخي المائي الذي يعتبر أطول الأنفاق المائية في فلسطين، ويعود لحقبة تاريخية طويلة قبل الميلاد، وقد استُخدم في الحروب الصليبية كمرابط للخيول.

والآن، ستصل جنين المدينة، وأول ما ستراه مسجدها القديم الذي بناه العثمانيون قبل أكثر من 550 عامًا، ستختار طريقك إلى حيث تريد في جنين، والمناطق التي تُزار فيها كثيرة. أما أنا، فاخترت ركوب سيارة أجرة ثانية إلى الجلمة، محطتنا الأخيرة حيث حفل الزفاف الذي أقصد، وهي البلدة الحدودية الزراعية الشمالية، وأكثر ما تُعرف به بيوتها البلاستيكية، وتربتها الزراعية وجوها الحار الرطب.

وبالقرب من الجلمة، بلدة صندلة والمقيبلة، في الأراضي المحتلة عام 48، يقوم سياج وجدار أوجدهما الاحتلال، فبقيت الجلمة بلدة فلسطينية، وتحولت المقيبلة وصندلة مؤقتًا إلى بلدتين إسرائيليتين يُحظر دخول أصحاب الأرض الأصليين إليها دون تصاريح ممن يحتلونها. وبالقرب أيضًا، تبدو "المدينة الصناعية" الموعودة، تلك التي لا تزال حبرًا على ورق، وتدعي إسرائيل أنها جزء من التسهيلات الاقتصادية التي قدمتها لنا بـ"سخاء" لترضي الأمريكان وتشتري بها سكوتنا.


اقرأ/ي أيضًا: 

واد صوانيت: سحر النرجس وصدى ابتهالات الرهبان

مسار إبراهيم.. كل ما تحتاجه لعطلة مميزة 

بالصور | قرية كور وحنين لأيام عز