15-مارس-2018

على مدى عقود، اصطاد جهاز المخابرات الإسرائيلية، مئات الشبان الفلسطينيين الراغبين بالانضمام إلى صفوف المقاومة، الذين أوقعهم ضعف الوعي الأمني في شباك خلايا وهمية أنشأها "الشاباك". لكن هل نجح هذا الجهاز دائمًا في اصطياد الشبان الذين وضعهم في مرمى سهامه؟ تؤكد حكايات كثيرة أنّ الإجابة لا. ومنها حكاية الأسير السابق نادي عوض من قرية بدرس، غرب رام الله، الذي نجا من إحدى هذه المحاولات.

التقينا عوض، ليروي لنا قصته التي بدأت تفاصيلها قبل 25 سنة، عندما تعرض للاعتقال نهاية عام 1992، في إطار حملة واسعة تزامنت مع إبعاد أكثر من 400 من كوادر حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان، ثم أصدرت محكمة إسرائيلية بحقّه حكمًا بالسجن 25 شهرًا، وأُودِعَ في سجن رام الله الذي كان خاضعًا حينها للاحتلال، وهناك تعرف بالقياديين في حماس صالح العاروري، والشهيد عادل عوض الله، وعرضا عليه الانضمام لكتائب القسام، فوافق دون تردد، وفق ما يروي لـ الترا فلسطين

نادي عوض انضم لكتائب القسام في سجن رام الله الذي كان خاضعًا للاحتلال، وتم تكليفه بتشكيل خلية لأسر إسرائيليين

يقول عوض: "طلب مني العاروري العمل على تشكيل خلية عسكرية متخصصة في خطف إسرائيليين بغرض مبادلتهم مع أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، وهو الأمر الذي اجتهدت في تنفيذه بعد الإفراج عني  في شباط/ فبراير 1995".

اقرأ/ي أيضًا: خلايا مقاومة وهمية يديرها "الشاباك".. اللعبة كاملة

ظلّ العاروري المعتقل في سجن رام الله مشرفًا على الخلية، وعمل على تأمين احتياجاتها من أموال وسلاح عبر نقاط ميتة، في حين اشترى عوض سيارة خاصة تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية، تسلل من خلالها لداخل المناطق المحتلة عام 48.

ويشير عوض إلى أنه تجول عدة مرات في اللد والرملة وضواحيهما، بحثًا عن هدف مناسب للخطف. وعندما وصلت خطة العملية إلى مراحل متقدمة، نقلت سلطات الاحتلال، العاروري إلى سجن آخر، بسبب الانسحاب من مدينة رام الله بموجب اتفاق أوسلو، فانقطع الاتصال معه.

"تواصل المعتقلين مع الخارج لم يكن أمرًا صعبًا، فالاحتلال لم يكن يفرض إجراءات مشددة خلال الزيارات كما يحصل اليوم، كما أن السجون في تلك الفترة كانت خاضعة للجيش وليس لشركات خاصة، والجيش عمومًا لم يكن يهتم كثيرًا بالإجراءات الأمنية"، يقول عوض.

فشلت جميع محاولات البحث عن خط بديل للعاروري، ما دفع عوض في نهاية المطاف لطرق باب تنظيم حماس في الأردن. ينوّه عوض إلى أنه فعل ذلك رغم أن العاروري كان قد حذّره من هذا التصرّف في حال انقطع التواصل معه، مضيفًا أنه أرسل أحد معارفه للأردن، وطلب منه التوجه لأحد الأمكنة والاتصال بأصحاب الاختصاص.

استطاع الرسول المبتعث من طرف عوض الوصول إلى أحد العناوين، واتفق معه على آلية للتواصل. كان ذلك في منتصف العام 1996، وبعد عودته إلى الضفة بدأ التواصل مع الخط الجديد، في حين أخذ الرسول على عاتقه مهمة استلام وتسليم الرسائل المشفرة.

انقطع اتصال عوض بقيادة حماس في سجون الاحتلال، فطلب المساعدة من آخرين في الأردن، لكن ذلك كشف أمره أمام "الشاباك"

في ذلك الحين، شنّت المخابرات الأردنية اعتقالات واسعة ضد كوادر ونشطاء الإخوان المسلمين إثر عمليات الثأر لاغتيال يحيى عياش، وخلال التحقيق اعترف أحدهم بالتواصل مع عوض، وقد وصلت هذه المعلومة للمخابرات الإسرائيلية، ومن هنا بدأت الأخيرة بحياكة خيوط لعبتها.

اقرأ/ي أيضًا: قضية حسن تفضح أكاذيب "الشاباك" عن الهجمات الكبيرة

يقول عوض: "في نيسان/ إبريل 1997 وصل إلى منزلي شخص مجهول وسلمني رسالة كان مكتوبًا فيها أنّ عليّ الحضور إلى الأردن فورًا لاستكمال ترتيب الأوضاع، وفي صبيحة اليوم التالي حزمت أمتعتي وتوجهت إلى معبر الكرامة، لكنّ الاحتلال منعني من السفر". 

بعد عدة أيام وصلت عوض رسالة أخرى من شخص ثانٍ عرّف على نفسه بأنه رسول من الأردن؛ جاء بقصد السياحة، كان نص الرسالة: "بما أنه تعذر وصولك إلى الأردن في الموعد المحدد، فإن التواصل سيكون من عندك في الضفة،  كما حوت الرسالة تفاصيل وترتيب اللقاء الأول مع هذا الشخص".

في شهر حزيران/ يونيو توجه عوض بناء على التعليمات إلى الشارع الرئيس قرب مدرسة بيتونيا في رام الله، كان مرتديًا لباسًا بلون متفق عليه، ويحمل في يده مسبحة وفي الأخرى صحيفة.  يقول: "مرّت من جانبي سيارة من نوع أودي حديثة، فتح سائقها النافذة وأطل برأسه قائلًا: "مرحبا أبو يوسف". أجبت: "أهلين أبو خليل". جلست قرب السائق وانطلقنا بعيدًا عن المكان، عرّف الرجل على نفسه فيما بعد بـ "أبو خالد"، كان في الأربعينات من عمره، حنطيّ اللون، ممتلئ الجسم، عابس الوجه".

ادّعى "أبو خالد" أنّه مسؤول جهاز الخدمات في كتائب القسام، وسينحصر عمله في هذا المجال، ثم في نهاية اللقاء الذي استمر نصف ساعة تقريبًا، ختم حديثه بأنه جاء ليكمل ما بدأه الشيخ صالح، وطلب من عوض أن يستعدّ لتنفيذ التعليمات التي سيزوده بها. زوّد عوض "أبو خالد" برقم هاتف للتواصل، ثم افترقا.

خرج عوض بعد اللقاء بانطباعات سلبية؛ ولم يكن مرتاحًا للرجل، خاصة أنّه  بدا متصنّعًا ومتكلفًا في حديثه، وردد بعض المفردات التي لا يستخدمها عادة الناشطون في حركة حماس، وفق قول عوض.

ويبيّن عوض أنه بعد شهر اجتمع مع "أبو خالد" بنفس الطريقة السابقة، وخلال اللقاء أخبره أنه سيزوده من خلال إحدى النقاط الميتة بقائمة أسماء بعض الشبان ليعرض عليهم تنفيذ عمليات فدائية ردًا على محاولة اغتيال خالد مشعل. يقول: "كان طلبًا غريبًا ومغايرًا لدوري الذي اتفقنا عليه سابقًا، والمنحصر في توفير الخدمات لخلايا حماس".

كلف ضابط في "الشاباك" ينتحل صفة قيادي في حماس، نادي عوض، بتجنيد شبان ليكونوا نشطاء في خلية وهمية، لكنّه اكتشف أمره بسبب كلمة عبرية

بعد خمسة أيام توجّه عوض لمكان النقطة الميتة، وكانت في نهاية شارع بيتونيا قرب مفرق مستوطنة "جفعات زئيف"، ومن هناك استلم الرسالة التي كانت تضم أسماء 6 شبان من قرى رام الله، يعرفهم عوض جيدًا.

اقرأ/ي أيضًا: "الشاباك" يستر عورته بكشف تفاصيل "هجوم عملاق"

يقول: "اللافت في هذه الرسالة أنّها كانت تحتوي على تفاصيل نقطة ميتة أخرى كانت محددة بالقرب من يافطة على مدخل قرية نعلين، وما إن دققت في النص مليًا حتى وجدت أن كلمة نعلين مكتوبة بالألف – نعالين – وهي اللهجة الإسرائيلية الدارجة".

أدرك عوض إثر ذلك أن "أبو خالد" ليس إلا ضابطًا إسرائيليًا يريد استخدامه كطعم للإيقاع بالشباب المتحمسين للعمل العسكري على طريقة عمل الخلايا الوهمية. يوضح أنّه زار الشبان الستة في منازلهم دون أن يفاتحهم بأيّ أمر عسكري، وقد نفّذ الزيارة خشية أن يكون مراقبًا من الاحتلال، حتى يوصل لـ "أبو خالد" رسالة بأنّه فعل المطلوب منه.

قبل أن يصل رد الشبان إلى "أبو خالد" كما كان متفقًا، اعتُقل عوض على يد المخابرات الفلسطينية التي أخذت تحقق معه حول علاقته بكتائب القسام، وفي اليوم التالي أطلقت سراحه في خطوة مفاجئة.

يقول عوض: "أخذت المخابرات الفلسطينية تروج بين الناس بأنني عميل وأن إطلاق سراحي جاء بعد طلب من المخابرات الإسرائيلية (...) كنت أعتقد أول الأمر أن اعتقالي ومن ثم الإفراج عني جاء لضرب سمعتي وتشويهها، غير أنني استنتجت فيما بعد أن الأمر جاء بطلب من الاحتلال فعلًا، لأنّ أبو خالد كان ينتظر ردّ الشبان، وأن اعتقالي عند السلطة كان من شأنه أن يربك الخطة".

يضيف، "بعدها تواصل معي أبو خالد وطلب مني تزويده بالتقرير، أخبرته أن الشبان رفضوا ما عرضته عليهم وأن الخوف يتملكهم ولا يرغبون بالعمل بتاتًا، بعدها أخبرني بأنّه سيعطيني قائمة جديدة لنفس الغاية، قطعت عليه الطريق متذرعًا بأنّ الأوضاع الأمنية لا تسمح بأي حركة بسبب اشتداد ملاحقة الاحتلال وأجهزة السلطة لكوادر حماس".

شعر عوض بعد هذا الرد أن "الشاباك" سيصفي حسابه معه لأنه اكتشف اللعبة، وبعد فترة قصيرة حدث ما كان متوقعًا، إذ اعتقله الاحتلال بتاريخ 13 كانون الثاني/يناير 1998 برفقة ثلاثة من الشبان الستة الذين طلب منه "أبو خالد" أن يعرض عليهم تنفيذ العمليات، وبعد أيام جرى تحويلهم إلى الاعتقال الإداري.

خلال وجوده في سجن "مجدو"، أطلع عوض قيادة حماس على تفاصيل ما حدث معه، فاقترحوا عليه السفر إلى الأردن لوجود خطر على حياته، وبعد الإفراج عنه في نيسان/إبريل 1998، بدأ بالبحث عن وسيلة يستطيع من خلالها الهرب إلى خارج فلسطين.

ولأن عوض ممنوع من السفر، فكّر في حيلة تجعل الاحتلال يسمح له بالخروج، فاتصل بــ"أبو خالد" وأبلغه أن رسولًا وصل من الخارج وأبلغه بأن قيادة التنظيم تطلب منه الحضور لترتيب إدخال ثلاثة شبان من الأردن، وتسليمهم لإحدى الخلايا في الضفة. يقول: "ما إن سمع أبو خالد بهذا حتى جن جنونه، وادّعى أنه الشخص الوحيد المكلّف بالتواصل معي من طرف الخارج".

بعد أيام توجه عوض لمعبر الكرامة، غير أن سلطات الاحتلال منعته من السفر وسلمته  بلاغًا لمقابلة المخابرات في معسكر "عوفر" المقام غرب رام الله، وهناك سأله المحقق الإسرائيلي عن سبب سفره إلى الأردن، ثم أخلى سبيله.

يقول عوض: "في أعقاب هذا اللقاء شعرت أن حياتي باتت مهددة أكثر، بعدها بدأت بتجهيز جواز سفر مزور، ثم اتصلت على أبو خالد، وأخبرته أنني أرغب بلقائه لأمر هام جدًا، واتفقت على مقابلته في حمامات مسجد رام الله بعد صلاة الجمعة بساعتين (...) خططت لقتله ومن ثم الهرب إلى الأردن".

زوّر نادي عوض جواز سفر وتوجه من خلاله إلى الأردن، وطلب المساعدة من حماس هناك، لكن المخابرات الأردنية اعتقلته وسلمته لإسرائيل

في البداية وافق الضابط على اللقاء، لكن سرعان ما تراجع متعذرًا بالانشغال. توجه عوض إلى الجسر، وبعد التدقيق في جواز سفره سمحوا له بالمرور، وفي اليوم التالي وصل الأردن، كان ذلك بتاريخ 27 أيار/مايو 1998.

يذكر عوض أنّه أقام في فندق بالعاصمة عمّان، ثم التقى بعدد من قادة الإخوان المسلمين وحركة حماس وأبلغهم بقصته، فوعدوا بفحص الأمر قبل توفير المساعدة اللازمة، وخلال هذه الفترة انتقل للسكن في إحدى الشقق في منطقة ماركا الشمالية على طريق عمان – الزرقاء، وبعد شهر تقريبًا داهمت المخابرات الأردنية الشقة واعتقلته.

يضيف، "بعدها جرى نقلي لمقر المخابرات الأردنية في وادي السير في عمان، كان المبنى تحت الأرض، وهناك تعرضت لتعذيب شديد وحققوا معي عن طريقة دخولي المملكة، ووجهوا لي تهمة التخطيط لتنفيذ عمليات انتقامًا لمحاولة اغتيال خالد مشعل".

بعد حوالي شهر من اعتقاله، سلّمت المخابرات الأردنية عوض للجانب الإسرائيلي على معبر الكرامة، ومنه تم اقتياده إلى مركز تحقيق "المسكوبية"، وهناك بدأت فصول تعذيب شديدة استمرت 70 يومًا، وفي نهاية المطاف أصدرت محكمة الاحتلال حكمًا بسجنه 5 سنوات، ثم في آذار/ مارس من عام 2003، عاد عوض لأهله وأبنائه.


اقرأ/ي أيضًا:

قضاة إسرائيليون: "الشاباك" يجبر أبرياء على الاعتراف

ضابط إسرائيلي: انتزعنا اعترافات أسرى بالتنويم المغناطيسي

عاهرات الصهيونية من أجل احتلال القدس