01-أبريل-2019

نتنياهو في رمات غان - gettyimages

من الأوهام الكبرى يكون الاعتقاد بأن الحلبة السياسية الإسرائيلية الحالية، والمنظورة مستقبلًا، ستشهد إطاحة بأي شكل من الأشكال برئيس وزراء إسرائيل الحالي، بنيامين نتنياهو. كانت قد تصاعدت بعض الأحاديث الإعلامية وغير الإعلامية غير العارفة بأن هذه الموجة من الانتخابات في إسرائيل ستشهد تحولاتٍ قيل أنها كبرى. لكن هذه الموجة الغرائبية والفريدة في سجل الانتخابات الإسرائيلية لن تحمل ما هو جديد في الـ9 من نيسان/أبريل الجاري.

إذا كان بيغن ورابين وبن غوريون من الآباء المؤسسين للدولة في إسرائيل، فنتنياهو الأب المؤسس الذي أمسك بيد النيوليبرالية والصهيونية معًا نحو فرض إسرائيل جديدة دوليًا، وعربيًا!

لن تكون إمكانية القول بأن نتنياهو أزيح أو هزم متاحة قريبًا، لا في الانتخابات الإسرائيلية، ولا بعدها، سواء أدين نتنياهو بأي من ملفات التواطؤ والفساد الـ4 التي أوكلها مراقب الدولة وادعاؤها أم لا. لكن لماذا كل هذا الثبات الذي تتمتع به مسيرة نتنياهو، صاحب أطول سنواتٍ في رئاسة وزراء إسرائيل حتى الآن وكاسر رقم دافيد بن غوريون المرتقب. الإجابة البديهية، أنه مفيد فعلًا لمشروع إسرائيل الاستعمارية بكل عتادها الاستيطاني والعنصري. لكن بإجابة تأويلية تراعي البداهة القبلية، يكون استدعاء تفسير هذه الفائدة التي يمثلها نتنياهو وتفكيكها.

اقرأ/ي أيضًا: إيليت "غوبلز" شاكيد.. البروباغندا مستمرة

عندما ستعقد انتخابات الكنيست الإسرائيلي بعد أيام قليلة، سيسود بعض الاستغراب والحديث المستهلك إعلاميًا  حتى في استديوهات "تل أبيب"، عن مدى تقلب طبيعة المنظومة الانتخابية الإسرائيلية ومفرزاتها. وسيقوم كنيست جديد حينها غير الحالي بكتله الأقل من دزينة بقليل، إلى كنيست آخر كتله الحزبية أكثر من دزينة بقليل. قليلٌ جدًا من هذه الكتل يحمل أي اختلافٍ حقيقيٍ عن ليكود نتنياهو، بشكل أساسي في القضايا الرئيسية، الاقتصاد، الاحتلال، كيفية التعاطي مع الفلسطينيين في غزة والضفة والخط الأخضر أيضًا، وفي السياسة الخارجية أيضًا. لا منازع حقيقيًا إذًا لاستمرار هيمنة الليكود، لا كاحوللافان، حزب الجنرالاتولابيد، ولا غيره. وبالتأكيد ليس أي من الكتل العربية، التي فقدت امتياز تقديم نفسها على أنها ممثل موحد للعرب، من خلال القائمة المشتركة سابقًا وما مثلته من أداة لكسر عقبة رفع نسب التمثيل، عبر الانقسام والتقسيم مجددًا إلى مجرد كتل انتخابية عربية، ما يسهل سحب البساط من تحت أقدام هذه الكتل حرفيًا، هذا لو دخلت الكنيست من الأساس. بشكل أساسي عبر إضعاف تكتيك الحضور الموحد في الكنيست نيابة عن الأقلية السكانية، التي هي الديموغرافيا الأصلية للبلاد، لصالح تذويب جهدها ضمن اللعبة "الديمقراطية" الإسرائيلية. إذ ليس من المستغرب، بل من المبرر إلى حد واسع، عودة التفكير بمقاطعة الكنيست وتصاعده، حتى بين أوساط جديدة لم تكن تتبنى المقاطعة من قبل، أمام تفتيت التمثيل العربي. هذا لو بقي النقاش في إمكانية تحقيق شيء ما سياسيُا عبر هذا التكتيك، تحت تصعيده إلى مستوى شرعية الكنيست، وشرعية إسرائيل غير الشرعية بمبتدأها.

بالافتراض العبثي أن نتنياهو سيتعرض للإدانة في أي من ملفات الفساد الموكلة بحقه، حتى لو انتهى إلى السجن فرضيًا، لن يكون هناك أي إزاحة حقيقية للسياسة الحالية  في إسرائيل، سواءً بالنسبة للفلسطينيين أو غيره من الملفات. لاستشفاف مدى الحنكة والإدراك الفاعل لمتطلبات السياسة في إسرائيل لدى نتنياهو، يمكن الاستدلال بمجريات فترته الأولى في رئاسة الوزراء، سنة 1996، في أعقاب اغتيال مهندس أوسلو إسحق رابين، وفي خضم تطاير حافلات شركة إيغد في القدس ونتنانيا و"تل أبيب" بأحزمة خلايا المهندس يحيى عياش.

إذ يمكن القول أن نتنياهو تعلم الدرس ولم ينسه من تلك الحقبة. لن يقوم نتنياهو مجددًا بلعب أي دور مسرحي في تياترو المفاوضات ليعطي قبلة حياة جديدة لحزب العمل أو غيره، كما حصل عندما خلفه إيهود باراك على أبواب الألفية الجديدة. لا يوجد أمام أعين نتنياهو أقل من فانتازيا جعل نفسه بن غوريون أو مناحيم بيغن جديد. فإذا كان هؤلاء من الآباء المؤسسين للدولة في إسرائيل، فنتنياهو الأب المؤسس الذي أمسك بيد النيوليبرالية والصهيونية معًا نحو فرض إسرائيل جديدة دوليًا، وعربيًا. إذ لم يسبق لأي زعيم إسرائيلي أن قدم لتطبيع الوجود غير الطبيعي لإسرائيل كما قدم نتنياهو، ليس بجهده الذاتي فقط طبعًا، إنما بعون السعودية وأشباهها ورعاية دونالد ترامب وأمثاله.

ملف أساسيٌ غير غائبٍ عن بال نتنياهو، مفاده أن أحد أهم مفاتيح استمراريته لا يقف إلى جوار شارع غزة في القدس تحت سقف الكنيست، ولا في نقاشات الإسرائيليين في المطاعم الفرنسية في شارع الملك جورج الخامس أو مقاهي وحانات الديزنكوف فقط. يؤمن نتنياهو بثالوث أدوات الهيمنة على الشارع في إسرائيل، الملف الأمني تجاه الفلسطينيين والجولان وجنوب لبنان، الصهيونية الدينية والاستيطان والرشاوى الرخيصة لخزان الحريديم والسفارديم الانتخابي، الذين لا يجدر طرح سؤال لماذا يصوتون لليكود بقدر سؤال لماذا لا يصوتون لغير الليكود؟. وثالث أضلاع الثالوث الوضع الاقتصادي، خاصة في وسط البلاد عبر أسهم "تل أبيب" وجوارها.

لنتنياهو أصدقاءٌ كثر، وأعوانٌ أكثر، ليس التناول هنا بخصوص شيلدون أدلسون أو موزيس وإسرائيل هايوم فقط. بل بشأن "الورقة الفلسطينية"، الخدمات الأمنية المفتوحة غير المنقطعة من طرف السلطة في الضفة الغربية، والإسهامات الجبارة للسلطة وللمخابرات المصرية معًا في الوضع القائم في غزة. من أهم الأوراق التي تدفع بنتنياهو بكل ثقة وهو مطمئن أن يمكنه اللعب بالورقة الفلسطينية بأقصى الفوائد المتاحة. بالتأكيد "البله" وقلة الحيلة الرسمية عربيًا حيال المجريات الأخيرة في القدس والجولان لا تقل أهمية عن باقي خدمات أعوان نتنياهو. إذ أن الضبط والتحكم، سواء حيال أعمال المقاومة في الضفة، أو القمع الموسع متعدد النطاقات الذي مارسه نتنياهو طوال العقد الأخير ضد غزة جعل الشارع الإسرائيلي أمام عدم اكتراث بأي حديث سياسي عن الصراع، ما دام العنصر الأمني حاضر، فليذهب الحديث تجاه دولة واحدة أم دولتين، أو أي إطار آخر لا إشكال أبدًا، ما دام كل الحديث في هامش الوقت الاحتياطي بينما ساحة الملعب الأساسية مؤمنة إلى حد واسع.

أما باقي ثالوث نتنياهو الرابح، أي الورقة الاقتصادية، فتعيش إسرائيل اليوم واحدة من أزهى مراحلها اقتصاديًا، رغم غلاء المعيشة والسكن الماراثوني، إلا أن البطالة في مستويات متدنية جدًا، والشيكل الإسرائيلي في ثبات معقول أمام النقد الأجنبي وقادر على استجلاب المضاربات والمنافسة لصالح الصادرات، خاصة من "الهايتك" الأمني الذي تعد الرياض وأبوظبي من زبائنه الأساسيين، إضافة للسوق الأفريقي الذي تحقق إسرائيل فيه إنجازات نادرة المثيل لاقتصاد بحجم الاقتصاد الإسرائيلي. إلى جانب أن الحد الأدنى الأجور شهد ارتفاعًا هامًا، رفقة خفض الحد المعتمد لساعات العمل أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: نكون الأغلبية.. أو لا نكون

كما يلعب نتنياهو مستندًا على ملفي الأمن والاقتصاد، ألعاب خطرة وفعالة دوليًا، يمكن وصفها بالمغامرات المحسوبة بدقة مبالغ فيها. نتنياهو صديق للكرملين، ليس فقط في الساحة السورية، بل في ملفات متعلقة بإمدادات الغاز لأوروبا وضم القرم وغيرها. أيضًا صداقته مع الصين وتمليكها مشاريع أساسية في الاقتصاد الإسرائيلي، "كيبوتسات" تنوفا للألبان ليس الوحيد، فتحت له أبوابًا لم تفتح لأي من أسلافه. هذا إلى جانب الساحة الأمريكية بشتى لوبياتها الممكنة، من أيباك إلى السلاح والدرونز مرورًا بصفقات كوشنر العقارية وليس انتهاء بيوسف العتيبة وأزلام السعودية والإمارات في واشنطن وحول ترامب.

لم يغفل نتنياهو، رئيس وزراء "الدولة اليهودية"، التحالفات المهمة مع رموز "معاداة السامية" بل ومعاداة البشرية أيضًا، ليس ترامب فقط، بل أمثال فيكتور أوربان وسالفيني وخاييربو لسنارو، عبر منافع متبادلة كان وما زال عرابها ستيف بانون، إذ وسعت هذه العلاقات الحميمية من دوائر نتنياهو وحضوره دوليًا، وقدمت لهؤلاء حليفًا لا يقل عنهم عنصرية وبذاءة، إنما منحهم ورقة تبييض سجلاتهم بشأن معاداة السامية وأصبحت علاقتهم بإسرائيل من الحجج المساقة لتبرأة أنفسهم من الوقائع العنصرية!

يشترك كل من نتنياهو وترامب بنقطة قوة أساسية، أنهما مشينان للسمعة الأنيقة لكن مفيدان بشكل مبالغ فيه، إذ لم تحلم إسرائيل كمشروع استعماري بأيدولوجية صهيونية، والولايات المتحدة كمشروع إمبريالي فادح، يومًا بجرأة ونجاعة كتلك التي لكل من ترامب ونتنياهو

في ظل مثل هذه الاصطفافات والشمولية التي يتعاطى عبرها نتنياهو مع مختلف الملفات، لم يتبقَّ لمنافسيه السياسيين من انتلجنسيا الطبقة الوسطى الأشكنازية ومتقاعدي الجيش، وليس خصومه الأيدولوجيين بالضرورة، أي أوراق مناورة سوى مساحات الشخصنة والاتهام، ومن هنا يمكن فهم الجهود الواسعة التي تبذل في ملفات الفساد الموجهة ضد نتنياهو وعائلته وأصدقائه، التي ليس للمصادفة دومًا ما تحبط على قرن كبش فداء سهل التوفر لنتنياهو. هنا ليس من المستغرب أن أيليتشاكيد، وزيرة العدل، وشريكة نفتالي بينيت، لم تجد، هي وآخرون، أي مساحة منافسة مع نتنياهو سوى المزيد من الفاشية وتصعيد الخطاب ضد العرب وبيروقراطية الدولة مستفيدًة من أدوات شعبوية أصبحت أقرب للوصفة الانتخابية اليمينية عالميًا.

إذًا، ورفقة الفارق المستمر في التضاؤل في استطلاعات الرأي لنوايا التصويت بين الليكود وحزب الجنرالات وخليفة تومي لابيدكاحول–لافان، ونظرًا للطبيعة الائتلافية التي تحكم التشكيل الحكومي الإسرائيلي، حتى أن الليكود نفسه بدأ ائتلافا وهذا واضح في اسمه حتى، سيبقى، وفقًا لما تقول المعطيات، نتنياهو رئيسًا للوزراء، سواء اكتسح المرتبة الأولى في عدد الأصوات، أو حل ثانيًا بفارق يكاد يذكر. كما لا يتوقع أن يتحول أزرق-أبيض لمعارضة فقط، بل وسيكون عرضة للذوبان والتفسخ في فترة زمنية قياسية. وستكون مصائر تهم الفساد لنتنياهو غير فارقة كثيرًا عن نتائج تحقيق مولر بشأن ترامب في واشنطن، إذ يشترك كل من نتنياهو وترامب بنقطة قوة أساسية، أنهما مشينان للسمعة الأنيقة التي يفضلها من لا يختلف عنهما في الدوافع والأهداف لكنهما في الوقت عينه مفيدان للمصلحة بشكل مبالغ فيه حتى. أي أن إسرائيل كمشروع استعماري بأيدولوجية صهيونية، والولايات المتحدة كمشروع إمبريالي فادح لم تحلما يومًا بجرأة ونجاعة كتلك التي لكل من ترامب ونتنياهو.


اقرأ/ي أيضًا:

العصا وسنغافورة.. خديعة فلسطين الكبرى

محمود عباس.. أن تقف ضد نفسك