16-مايو-2019

ثلاثة أرباع قرن من الزمان مرّت تقريبًا، لكن أيام اللد ويافا والقدس تظلّ عالقة في مكان قصيّ من ذاكرتهن؛ الطفولة في المدرسة، الحارات، الحقول الزراعية، البحر، سيارة الأجرة والقروش الخمسة، الأرض وخيراتها، والعونة، والحصاد، والحياة البسيطة الصعبة هُناك.

بين يافا واللد والقدس، تستذكر ثلاث سيّدات جزءًا من تفاصيل حياتهن "أيام البلاد"، قبل أسى النكبة المستمرّ منذ 7 عقود

نعيمة وصبحية، كانتا من بين مّن هجّرتهم العصابات الصهيونية عام 48 من مدينة اللد. لم تجمعهما مدينتهما حينها، لكن جمعتهما خيمة في مخيم عسكر شرق نابلس.

نعيمة (يمين) وصبحية (يسار) الصورة

تتذكّر نعيمة وهبي (87 عامًا) مدرستها التي كانت قريبة من البيت، مريولها المدرسي الأزرق المخطط بالأبيض مع ياقة بيضاء كذلك، وحقيبة من قماش صنعتها لها والدتها لتضع فيها الكتب. درست في صفيّن كما تقول؛ بستان وصف أول، وفيهما تعلّمت القراءة والكتابة. لا تغادر مخيّلتها مديرة المدرسة، "الست شهرت" التي كانت تطلب من نعيمة في معظم الأيام، الذهاب لمنزلها لتجلب لها السندويشة، فما أن تصل وتطرق الباب حتى تفتح لها والدة المديرة، وتبدأ بتسخين خبزتين على النار، إحداهما لنعيمة.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطينيون يعودون لـ"البلاد".. "هون دارنا"!

تقول عن مدرستها في اللد "كانت ما أحلاها.. توّقف البنت الشاطرة اللي حفظت القصيدة، وتطلع قدام البنات تنشدها" وتتذكر قصيدة القهوة مرددةً كلماتها "أنا السمرا بحبوني.. بصبوني بالفناجينِ"، وتضيف: "كنا نطلع ونمثل"، وتشير أيضًا إلى درس في اللغة العربية كانت كلماته تقول: "إلى أين أنت ذاهب يا بني؟.. أنا ذاهب إلى المدرسة".

لم تكمل نعيمة تعليمها بعد الصف الأول، وأمضت أوقاتها بعد خروجها من المدرسة، تركض في شوارع اللد لا تبتعد كثيرًا عن محيط منزلها، فكانت تذهب عند والدها في "دكان الحلاقة" القريب من "الجامع الكبير"، وتتوجه إلى كنيسة قريبة، وتركض بين المصلين وتقلّدهم في صلاتهم.

صبحية صقر (82 عامًا)، لا تدري ما السبب الذي حال دون تلقيها تعليمها الأساسيّ في اللد، لكنها تتذكر وجود مدرستين للبنات، واثنتين للأولاد، وكانت صديقتها ابنة جارهم تتلقى التعليم في إحدى تلك المدارس.

تتذكر أنّ الطلبة في حينه كانوا يتعلمون "مادة الانجليزي" بعد الصف الخامس، وفي الصف السادس كان الطالب يختم قراءة القرآن الكريم، وهذا يعني إقامة العائلة لاحتفال "ختمة القرآن"؛ يذبحون خروفًا، ويقيمون موائد العشاء، ويقرأون القرآن فيها.

"البنات" كُنّ يذهبن إلى المدرسة صباحًا، وعلى صبحية أن تلازم البيت إلى جانب أمّها. تقول إن صيف اللد كان حارًّا، وما أن يأتي وقت العصر، حتى تخرج لتلعب مع أنعام، ابنة الجيران، فيلعبون "دار دور" مثل "بيت بيوت" اليوم، ولعبة "الأكس" التي يرسمن فيها "مربعات" على الأرض ويقفزن فوقها، ولعبة "القفز عن الحبل"، كما كن يلعبن بـ"الشرايط" التي تصنعها والدتها بغطاء زجاجة "كازوز" وخشبة تغطيها بقطعة قماش، وتصنع لها الشعر وترسم الوجه، فتصبح لعبة.

اقرأ/ي أيضًا: رجب غانم.. 69 عاما في رحلة البحث عن رائحة اللد

بين يافا واللد، تنقلت صبحية في طفولتها، فوالدها عمل في اللد، وكل عشرة أيام تأخذهم والدتها ويتوجهون ليافا، كانوا يستقلون الباص بأجرة خمسة قروش، وينزلون في بيت عمهم القريب من بحر يافا، وما أن تصل المنزل، حتى تمسك يد ابنة عمها ويركضن إلى البحر؛ يجمعن الصدف ويصنعن منه عقدًا.

أمّا مريم أبو لطيفة، القاطنة في مخيّم قلنديا شمال القدس المحتلة، فلم تجرّب حياة اللد ويافا كما هي حكاية نعيمة وصبحية، فهي من قرية اسمها "صرعة" قضاء القدس. لم تتلق أي تعليم، فلم يكن من المسموح للفتاة أن تخرج وتتعلم كما تقول، ولم توجد في قريتها أو القرى المجاورة مدرسة للفتيات.

مريم أبو لطيفة

كانت تلازم البيت بصحبة شقيقتها، فيما كان شقيقها المولود في صرعة، فكان يذهب يوميًا ماشيًا على أقدامه، إلى المدرسة الوحيدة في المنطقة والواقعة على أرض بين عدة قرى منها: عسلين، اشوع، رفات، عرتوف.

"كانوا يقولولنا عيب البنت تتعلّم" تقول مريم لـ الترا فلسطين، وتضيف:"الناس في القرى الهم أراضي، وكانت الناس عايشة من خير أراضيها، ومش كل الناس تبعث أولادها للمدرسة، اللي كان عنده أراضي كثير كانوا أولاده يساعدوه وما يروحوا ع المدارس".

ساعات يومها كانت تقضيها باللعب في المنزل أو محيطه، وبعدها بدأت تساعد والدتها في المنزل، ومن ثم صارت تعمل مع والدها في الحقول، إذ كانت تتعلم ما يعلمها والدها. في وقت مبكر تخرج من بيتها وتتوجه إلى الأرض، تزرع البندورة، الثوم، البصل، الخيار، القمح، الشعير، الفول، العدس، وتحصد القمح وتذهب إلى "الجرن" وتقوم بطحنه.

كان الناس في قريتها صرعة يعاونون بعضهم في حصاد القمح "العونة"، لكن مريم لم تكن تساعد، فكان والداها هما من يذهبان لمساعدة الأخرين، ولم يكن مسموحًا للفتيات الخروج من منازلهن لوحدهن.

تقول مريم إنه كان يقع على عاتقها تقطيع الخشب من الأرض وجمع الحطب ونقله على رأسها للبيت، وتعبئة المياه، فكانت تذهب ووالدتها إلى عيون القرية ويملأن جرة الفخار بالمياه ويعدن، يفعلن ذلك في اليوم أكثر من مرّة "الحياة بقت صعبة بس حلوة ومنيحة".


اقرأ/ي أيضًا:

شاهد القبر الفلسطيني الذي تجاوز ثلاثة حدود!

هجّرتهن النكبة والتقين بعد 70 سنة

صور | "أيام البلاد".. خير الزاد لعامٍ وأكثر