18-مايو-2020

أضافت نقابة الأطباء الموقرة قبل أيام مثالاً ثالثًا على سجل نقابي غير ديمقراطي في حماية المنتسبين إلى المهنة، حماية بيروقراطية وفيها عناد وتعالٍ واستبداد يشبه استبداد السلطات السياسية والأمنية.

واضحٌ أن بعض الهيئات الإدارية للنقابات تصاب بالشعبوية بفعل غزارة الشعارات الانتخابية

وقبل نقابة الأطباء فعلتها نقابة المحامين ذات سنة، وتصدت بـ"السيوف" لأي صوت صحفي قد يشكك في نزاهة المحامين الفلسطينيين. وقبل ذلك كانت نقابة الصحفيين عندما ترفع شعار "يمنع حبس الصحفيين" يعتقد البعض أن الصحفيين "رسل حقيقة" أو أنبياء ولا يرتبكون حوادث سير أو تعود شيكاتهم أو يكذبون أو يرتكبون مخالفات وجنح يستحقون المخالفة عليها.

واضحٌ أن بعض الهيئات الإدارية للنقابات تصاب بالشعبوية بفعل غزارة الشعارات الانتخابية، ويتراءئ للأعضاء معان قبيلة في كونهم قادة الجسم النقابي، فيعتبرون أنفسهم أبناء العائلة المهنية الصناديد المدافعين عن أي ابن عم مهني، ويتحولون إلى منظمي زيارات العزاء وطوابير تهاني الأفراح، يتقدمون رتلاً من أبناء النقابة في صورة أقرب إلى ما كانت تقوم به العشائر مع اختلاف الملابس ونوع الحافلة.

التحشيد مهم، وتوحيد الجسم المهني أساسيٌ في العمل النقابي، لكن تقديس المنتسب يحيل إلى معاني التجنيد الذي لا يليق بنقابات يُفترض أنها جاءت من عقل أهلي ومدني خال من عقد السلطة والهيمنة.

المنتسبون للنقابات المهنية هم في نهاية نهار عملهم، مواطنون عاديون يخطئون ويرتكبون مخالفات سير، وقد يتشاجرون ويعتدون وينتهكون حقوق زملاء أو جيران. الأطباء الموقرون يقعون في ذلك، والصحفيون البواسل في نفس حافلة الأخطاء والخطايا، والمحامون أيضًا، والرياضيون وأطباء الأسنان والكتاب والعمال والقضاة والفنانون.

صحيحٌ أنه من زاوية نقابية ممنوع تركهم وحيدين في المواجهات القضائية أو في أزمات تخص المهنة، لكن ممنوع مناصرة الزملاء "ظالمين أو مظلومين"، لأن الهوية النقابية هكذا تنتقل من التنظيم الأهلي والمدني إلى المحازبة السياسية المريرة، أو التجنيد القطيعي الذي لا يليق بنقاباتٍ أو اتحاداتٍ مهنية، يتم المراهنة عليها كمحركات دفع للديمقراطية والحقوق المدنية وتوزيع السلطات.

النقابات القائمة على الانفعالية والشعبوية شكلت عكازًا للاستبداد في قطاعاتٍ من المفترض أنها أكثر المؤسسات صناعة للمعاني المدنية والأهلية الحديثة 

للأسف، كثيرًا ما تحولت النقابات في العالم العربي والعالم الثالث إلى أجسام بيروقراطية من هنا، من شعارات التقديس لمهن مثل الطب والصحافة والمحاماة. وهذه النقابات القائمة على الانفعالية والشعبوية شكلت عكازًا للاستبداد في قطاعاتٍ من المفترض أنها أكثر المؤسسات صناعة للمعاني المدنية والأهلية الحديثة المرتبطة بقيم الانسجام مع المجتمع وليس التعالي عليه.

"الصحفيون رسل حقيقة"، "الأطباء أصحاب رسالة سامية"، "المحامون رعاة الحقوق"، كل هذا جميلٌ ونحن نصعد بعد التخرج إلى المهنة، لكن في الممارسات المهنية الحقيقية نضع هذا الكلام خلفنا، وننسجم مع مجتمعاتنا بقيم متوازنة ومتواضعة وخالية من السلطوية، لأن النقابات والاتحادات كانت تاريخيًا، في تجارب الدول التي نجحت، مؤسساتُ التعريف الأم للمجتمع المدني، التي راهنت نظرياتٌ سياسيةٌ منذ عقود عليها، كيد النظام والمجتمع الثانية التي تتجادل وتتفاوض وتتصارع مع السلطة والحزب والشركة والمصنع ورأس المال في عمليةٍ لا نهائيةٍ لصيانة الديمقراطيات والحقوق.

شاهدتُّ أصدقاء وزملاء كثر في معارك من هذا النوع يكتبون بقوة وانتماء تجاه نقاباتهم، ينفعلون بشكل عشائري أو تنظيمي. وقد تكون انفعالاتهم صادقة وحقيقية، لكنها على المدى البعيد سقطات مفاهيمية ستؤدي حتمًا إلى نقابات مستبدة في دول مستبدة ومجتمعات لا يصون مفاهيمها أحد، لا الدولة ولا مجتمعها المدني.

إن إفساد مفهوم مدني لا يقل خساراتٍ عن فسادٍ في المال العام أو في الصلاحيات. كلاهما يقضم هويتنا المدنية الطليعية لصناعة مجتمع من المواطنين الواقفين سواسية بتواضع وبدون عقد وعنجهيات، لخدمة بلد ما زال الرهان عليه كبيرًا في المسار الوطني والديمقراطي. الحر والمتحرر والجديد والفاعل.


اقرأ/ي أيضًا: 

دلالات: