24-ديسمبر-2019

مقال رأي | 

نجم عن الأزمة الأخيرة المتعلقة باتفاقية "سيداو" انقسامٌ عميقٌ داخل المجتمع الفلسطيني بين مؤيّد للاتفاقية ومعارضٍ لها، وكان أبرز مظاهر هذا الانقسام، الاجتماع الذي عقدته مجموعة من العشائر في الخليل، ثم أعلنت في نهايته ما هو أشبه بعصيان عشائري على نُظم السلطة وقوانينها، خاصة قانون رفع سنّ الزواج للفتيات إلى 18 عامًا، وحظر عمل مؤسسات المجتمع المدني النسوية وتهديد كل من يتعاون معها، إضافة إلى إنذار وسائل الإعلام إن قامت بتغطية الأنشطة النسوية، حيث يصنّف ما جرى بأنه أعمق انقسام يتعلق بقضية مجتمعية.

     الانقسام بخصوص اتفاقية سيداو يُصنف بأنه أعمق انقسام يتعلق بقضية مجتمعية

وقفت السلطة الفلسطينية عاجزة أمام الجدل والصراع الذي كاد أن يدمّر بنية المجتمع الفلسطيني ككل، ولم تنطق أي دائرة من دوائرها بكلمة واحدة، وخلقت من نفسها سلطة ميتة لا تسمع ولا ترى ولا تتنفس ولا تحسّ بما يدور حولها، كأنها فقدت كل سبل التواصل مع المجتمع الذي تقوده، ووقفت حائرة دون موقف رغم أن الرئيس محمود عباس هو من بادر للتوقيع على هذه الاتفاقية من تلقاء نفسه، ضمن سيل اتفاقياتٍ وقّع عليها بصورةٍ جماعيةٍ دون أن تُناقش هذه الاتفاقيات على المستوى الرسمي أو المجتمعي، حيث حاولت السلطة أن تقدّم نفسها جسمًا سياسيًا يحترم اتفاقيات حقوق الإنسان، في محاولة منها لتحقيق مكاسب سياسية.

اقرأ/ي أيضًا: نساء يعرقلن البلاد

يبدو للوهلة الأولى أنّ السلطة الفلسطينية قد انتهجت منذ عام 2007 من حيث الشكل بناء نظامٍ مدنيٍ كرد على سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، وفوزها قبل ذلك في عام 2006 في انتخابات المجلس التشريعي، حيث اتسم خطابها بأنه خطابٌ سياسيٌ دينيٌ استطاع أن يستقطب غالبية الناس في جو كانوا فيه محبطين من أداء حركة فتح ذات الميول العلمانية، التي صنفت نفسها في أكثر من محفل عالمي بأنها حركة سياسية اشتراكية.

اعتقدت السلطة الفلسطينية التي تقودها حركة فتح أنّ الخطاب الديني الذي كانت تبثّه حماس في المساجد هو سبب انتصارها السياسي في الانتخابات، لذا وبعد الانقسام سارعت السلطة لتجفيف كل منابع الخطاب الديني الذي كانت تستخدمه حماس، واتخذت خطوات عديده للسيطرة على هذه المنابع، أبرزها السيطرة السياسية على وزارة الأوقاف واعتبارها وزارة سيادية، وحصرت أوقات قراءة القرآن عبر المساجد، وباشرت بإقصاء الأئمة والمؤذنين المناوئين لها من المساجد، وحظرت الإذاعات الدينية، وبسطت سلطتها على أئمة المساجد، بينما باشرت وزارة الأوقاف بفرض نماذج خطبة جمعة موحدة في المساجد وغير ذلك من الإجراءات.

       استبدلت السلطة خطاب المساجد السياسي بخطابٍ دينيٍ أجوف لا فلسفة فيه ولا مضمون      

نجحت السلطة الفلسطينية في السيطرة على كل المنابع الفكرية الدينية، لكنّها فشلت في تحويلها إلى منابع فكرية تقترب من هموم الناس وتقبل الآخر، دون أن تقدّم نفسها سلطة ذات برنامج سياسي اجتماعي منفتح، ولم تقم بتحويل الخطاب الديني السياسي إلى خطاب ديني تعددي متسامح يلتقي وهموم الناس، ويحررهم من التأثير السياسي، بل استبدلت خطاب المساجد السياسي بخطابٍ دينيٍ أجوف لا فلسفة فيه ولا مضمون، خطابًا سلفيًا محافظًا ينفي حتى التعددية الفكرية الإسلامية، ولعلّ ذلك يعود إلى أن معظم أئمة المساجد الذين تم توظيفهم تلقوا تعليمهم في كليات شريعة متشددة، لا تؤمن كثيرًا بتعددية الآراء حتى داخل المنهج الإسلامي، ما ساهم بخلق جيل محافظ ومتشدد لا يؤمن بالرأي والرأي الآخر ولا يقبل التعدد أو التسامح.

أعتقد أن السلطة الفلسطينية فشلت في التحول إلى سلطة مدنية، وتحولت بدرجة أكبر إلى سلطة دينية دون أن تملك مواصفاتها، فكان إنتاجها الفكري أكثر رداءة من ذي قبل. أدركت أن العلمانية تعني فصل الدين السياسي عن الدولة، لكنّها لم تعمل على فصل نفسها ككيان سياسي عن الدين، بل حاولت السيطرة عليه واستخدامه كما فعلت حركة حماس من قبل، وأثّر منتوجها الفكري على كل مكونات المجتمع الفلسطيني، لذا وجدت السلطة نفسها عاجزة عن النطق بكلمة واحدة في أزمة ثقافية من هذا القبيل، وبدت في موقف محافظ يفوق موقف أشد المحافظين، كأنها لم تتعلم درسًا من الأحزاب التي أخذت مواقف تخالف طبيعتها، فخسرت مواقفها وخسرت نفسها، فمقتل حزب العمل الإسرائيلي كان عندما أراد أن يتقمّص تشدد حزب الليكود، فخسر جمهوره وفشل في إقناع جمهور جديد وتلاشى من الواقع بسرعة كبيرة.

      فشلت السلطة في تحويل المنابع الدينية الفكرية بعد أن سيطرت عليها لتقترب من هموم الناس وتقبل الآخر     

حركة حماس الدينية التي تدير قطاع غزة كانت أكثر ذكاءً في تعاملها مع ثقافة المجتمع، فهي أدركت أن تعزيز روابط البنى التقليدية المتشددة في قطاع غزة لا يخدم مصالحها، وقد يكون الأبعد عن خطابها السياسي، لذا حاولت تقليد حزب الليكود وإقناع الناس بأنها أكثر انفتاحًا لكسب جمهور جديد، وعملت على تدجين العشائرية في قطاع غزة وإضعاف سلطتها، وحاربت القوى السياسية المتطرّفة التي كانت تحاول أن تختبئ في أحضان العشائرية، وخاضت معارك عنيفة لتفكيك البنية المتطرفة، وتعاملت بحذر وقبول مع الخطاب المدني.

اقرأ/ي أيضًا: عقدة سندريلا الفلسطينية

لم تدّعِ حركة حماس المدنية، لكنها لم تجاهر بمعاداتها، ولم تحاول يومًا تقديم نفسها كحركة علمانية بقدر ما تسعى لتقديم نفسها كحركة سياسية دينية لا تعادي الدولة المدنية بل مستعدة للتعايش معها، وعبّرت بوضوح عن موافقتها على إجراء انتخابات عامة بموقف كان أكثر وضوحًا من موقف السلطة الفلسطينية.

ما أود أن أُنهي به مقالي، وعلى ضوء المواقف المتضاربة التي خرجت عن مسؤولين سياسيين تجاه اتفاقية "سيداو"، والتي ظهر فيها البعض محافظًا أكثر من المحافظين، عكست أزمة في الهوية السياسية للسلطة، وهذه الأزمة لا بد أن تخضع لنقاش فكري مُعمّق، ولا بد من الخروج بإطار برنامجي اجتماعي مدني يلتف حوله من يؤمنون بهذا البرنامج، فالبرنامج المتعدد الأوجه قدّم فائدة كبيرة حين كانت المقاومة هي العنوان وليس البرامج الفكرية، لكن البرامج الاجتماعية اليوم هي سيّدة الموقف، ووضوح الهوية الفكرية سينعكس تلقائيًا على هوية السلطة التي بدت في الأزمة الأخيرة مثل الغراب الذي قلّد مشية الحمامة، بعد أن أعجبته مشيتها، وحاول أن يقلدها ولم يستطع، وعندما يئس أراد العودة لمشيته القديمة، فاكتشف أنّه نسيها، فلا عاد غرابًا ولا صار حمامةً.  


اقرأ/ي أيضًا: 

سلطتان من ورق وحطب على عامود خيمة "المنسق"

فلسطين خالية من الرشاوى الجنسية

سيداو في صحافة "ما بعد الحقيقة"