15-سبتمبر-2018

تعيش الأغنية الشعبية "حالة انهيار" كما يصفها مهتمون في السنوات الأخيرة، لكن هذه الحالة وجدت لها جمهورًا واسعًا في الشارع الفلسطيني، يُمكن أن تُلاحظه بسهولة في سهرات الأعراس، وفي الضجيج المُنبعث من السيارات التي تتجول هنا وهناك، أو في سيارات النقل العام، ومن محلات تجارية، بينما أصبحت أبرز ملامح هذا "الإزعاج"، هي الدحية، هذه التي لا يحضر منها إلا اسمها فقط، فهي ليست تلك البدوية الأصيلة، وإنما "مياه راكدة في مرحاض" كما وصفها أحد المهتمين.

وكي تكون حدَّاءً لا بد أن تملك فطرة وسليقة، ولا بد أن تتمرن حتى يستقيم لسانه ووزنك العروضي، ويبرد لسانك، وتتوقد بديهتك، فهذه هي الدحية الوحيدة، وغيرها ملوثات صوتية موسيقية.

مهتمون بالأغنية الشعبية يتخوفون من انهيارها مع دخول ألوان غناء يرونها مجرد إزعاج وفوضى

يروي الصحافي خالد سليم، أن الأكاديمي الراحل عبداللطيف البرغوثي ذات مرة في قاعة الدرس في جامعة بيرزيت، وحمل سِبحة وقال: "الدلعونا ليست كلمات مرتبة وفقط. إنها وزن ومعنى. إنها شعر. هيا، جربوا معي أن تغنوا ردة دلعونا على مفتاح بحر البسيط، وصار يغني: على دلعونا وعلى دلعونا.. (مستفعل فاعل مستفعل فاعل)".

في إحدى الحفلات، يطلب المغني الذي يُوصف بأنه فنان شعبي شاب من الشبان إنارة أضواء هواتفهم النقالة، ويطلب قطع الكهرباء لتظهر الفلاشات بوضوح، ويُتبع ذلك بالدعاء على كل من لا يستجيب لطلبه. وفي حفل آخر، تحضر شتائم الذات الإلهية، وقذف أشخاص بأسمائهم، وفي أقل الأحوال هبوطًا، تحضر كلمات لا علاقة لأي منها بالتي قبلها أو بعدها، وتغيب الجمل المفيدة.

اقرأ/ي أيضًا: الدحية والدبكة.. عبادة واستسقاء

وفي وصف هذه الحفلات، يقول الصحافي يامن نوباني إنها "تأتأة وترحيب وحركات مجنونة"، ويُسهب في المقارنة بين ما وصلت إليه سهرات الأعراس هذه الأيام، وما كانت عليه "أيام الزمن الجميل"، متحسرًا على ما آلت إليه الأحوال.

أبرز الأسماء في "الدحية" وألوان الغناء الشعبي الجديد هو الفنان أيمن السبعاوي، وهو يُوصف لدى مُريديه بأنه "الفنان الأكثر جماهيرية وتميزًا" هذه الأيام، ويُمكن أن تلحظ الإقبال على حفلاته في انتشار مقاطع منها كيف ما أدرت وجهك في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تلقى تفاعلاً كبيرًا من رواد هذه المواقع بالتعليق والإعجاب والمشاركة.

حاول الترا فلسطين التواصل مع السبعاوي للحصول على رأيه في الاتهامات المنسوبة لجيله من الفنانين، لكنه بعد أن رحّب بإجراء المقابلة معه، تراجع بعد ذلك وامتنع عن الرد.

وللحديث في هذا الجدل بشكل أكثر تخصصًا، تحدثنا مع الفنان الشعبي إبراهيم صبيحات، وهو الذي يصدح بالأغاني الشعبية والتراثية منذ (29 عامًا). يرى صبيحات أن "موضة النط والقفز وأغاني الكلمات غير المفهومة" ما هي إلا نزوات عابرة وسيكون مصيرها الفشل والغياب خلال مدة قصيرة.

وقال صبيحات لـ الترا فلسطين، إن الفن الشعبي "بخير رغم المؤثرات التكنولوجية الحديثة، فالناس ستمل من هذا النمط، كما كان مصير موضة الزمر قبل سنوات التي لم نعد نسمع بها".

الفنان إبراهيم صبيحات: موضة القفز وأغاني الكلمات غير المفهومة نزوات عابرة ومصيرها الفشل

وأشار صبيحات إلى أن الدحية في الأصل دون موسيقى وإيقاع، لكنها تحوّلت الآن إلى "ديسكو"، و"نطنطة وصراخ"، مؤكدًا أن عموم الفنانين يرفضون ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تطورت الأغنية الفلسطينية في قلب الأغنية الشعبية؟

ورأى صبيحات، أن الأغنية الشعبية والتراثية تأثرت الآن بالتكنولوجيا والحضارة والمدنية، وأصبحت أهميتها تقل في الأعراس، مبينًا أن أهميتها قبل سنوات كانت تأتي من الطبيعة والعادات الموجودة، "حيث كانت العائلة تنزل إلى الأرض من أجل الحصاد من شروق الشمس حتى المغيب، وكانوا يرددون الأغاني والأهازيج الشعبية، لكن اليوم أصبحت التكنولوجيا هي ما تقوم بهذا الدور (الحصاد)، بالتالي غابت الأغنية التراثية التي تصف الحصاد".

ووفق صبيحات، فإن الجيل الجديد المتأثر بالتكنولوجيا لم يعد يعرف الجفرا، والدلعونا، والقوالب الشعبية مثل الموشحة والشروقي والميجانا، "ولذلك فإن واجب الفنانين أن يحملوا هذه الأغاني ويحافظوا عليها وينقلوها للناس، لأن الفنان لا يجب أن يمر مرور الكرام، عليه أن يترك ما يذكره به الناس" حسب قوله.

ويدعو صبيحيات إلى تشكيل لجانٍ وجمعياتٍ لدعم التراث، وإحياء ذلك في الكتب المدرسية والجامعات، والابتعاد عن الموسيقى "التافهة التي طفت على السطح حاليًا" وفق وصفه، "فالتراث في كل دول العالم يقدم كمادة لطلابهم وبتغنوا به في المدارس من أجل المحافظة على الهوية الحقيقية".

لكن الفنان ناصر الفارس يرى بأن ما وصلت له الأغنية الشعبية الفلسطينية يعود إلى "الذوق العام"، إذ كان الفن في السابق يشبع من خلال الأذن، وبعدها تحول للعين، وأصبح الفيديو كليب يشد الناس ويُنسيهم الكلام، "واليوم لا العين ولا الأذن، حيث أصبحت الاغنية مجرد مخابطة وصياح، ولا يوجد كلمة ولا لحن ولا قول".

وقال الفارس في حديث مع الترا فلسطين أن الحفلات الشعبية والأعراس هي ثقافة المنطقة أو الحي أو المدينة أو القرية أو المخيم، "فإذا كانت الثقافة هزيلة والكلمات لا تليق بالشعب الفلسطيني، فإنها تبث ثقافة مسمومة للبلد بأكمله، وهنا الجريمة".

الفنان ناصر الفارس: 20-30% فقط من الشعب لحقوا ركب الأغاني الجديدة، لكنهم يعلمون أنهم في المكان الخطأ

ويعتقد الفارس أن من لحقوا ركب هذه الأغاني يشكلون 20-30% من الشعب، "لكن الغالبية العظمى منهم يعلمون جيدًا بأنهم في المكان الخطأ، وبالتالي لا خوف على الأغنية الشعبية الفلسطينية، لأنه على المدى الطويل سيبقى من يستحق، وتلقائيًا سيهبط من غير ذلك".

وأضاف، "الأعداد الهائلة التي نجدها أحيانًا في سهرات المغنيين الجُدد لا يمكن أن تُشكل تأثيرًا على ثقافة وعلم البلد، فهؤلاء لن يستمروا طويلاً وسيختفون فجأة، كما اختفى من قبلهم، وسيظهر جدد وهكذا".

ويتفق الفنانان صبيحات وفارس على أن التراث الفلسطيني لا يموت، مهما طرأ بعض من المستجدات عليه، ومهما تغير الزمن، فإنه سيبقى.


اقرأ/ي أيضًا:

فيديو | اليرغول والشبابة: رفيقا الأعراس والرعي

فيديو | كيف استعادت الدحية مكانتها؟

كيف رأى المستشرقون فلسطين؟