29-يناير-2020

انشغل الرؤساء الأمريكيون تاريخيًا بالصراع العربي الإسرائيلي، وكان كل واحد منهم لهم بصمته الشخصية في الحلول، من مهاراته الشخصية إلى فهمه الديني أو فكره الاجتماعي. فمثلاً كارتر أنجب اتفاقية كامب ديفيد وأنتج سلامًا مصريًا - إسرائيليًا يشبهه تمامًا، وصمد هذا السلام. كلينتون أنتج أوسلو وصمد ظرفيًا. بوش الابن حاول فرض "خارطة الطريق" لكن تبخرت الطريق والخارطة. والآن جاء ترامب ليطرح صفقة قرن أحادية التخطيط ولا يوجد فيها الأطراف التاريخية، وصرنا الآن إزاء محاولتين جمهوريتين فشلتا، ومحاولتين ديمقراطيتين تصمدان نوعا ما.

"إسرائيل" تتعاظم، صارت دولة سوبر نووية وتريد التخلص من المفاعل التقليدي. صارت دولة عظمى

المهم، ما يحدث هنا في الشرق الأوسط وليس ما يُكتَب في واشنطن. هنا، "إسرائيل" تتعاظم، صارت دولة سوبر نووية وتريد التخلص من المفاعل التقليدي، لها أصدقاء في يمين العالم الذي يعود بقوة، فيها اقتصادٌ قويٌ ومجتمعٌ متماسكٌ وشبكة مصالح وقوانين مقنعة، وقوة لا تقبل الاكتفاء بل تتعاظم، فتحارب وتضم وتحاصر وتقصف بغداد وصنعاء ودمشق في نفس الطلعة الجوية. صارت دولة عظمى، تحتاجها روسيا والهند والصين أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: صفقة القرن: أقصى درجات الوعي، أدنى درجات الفاعلية

"إسرائيل" أمام مسار القوة هذا ستكون إزاء واقع يفرض عليها الاكتمال، وأجود ما في ذهنها حاليًا لهذا الاكتمال دولةٌ يهوديةٌ وقدسٌ غير مقسمة وسيادةٌ على كل الأرض المحتلة. سنحاول هنا فحص الأحلام الإسرائيلية الثلاثة.

تسعى "إسرائيل" لدولةٍ يهودية الطابع، وأول ما تطلبه هنا اعتراف الفلسطينيين بهذا الطابع أكثر من باقي دول العالم. طبعًا الفلسطيني لن يعترف، واللاتيني والغربي والآسيوي والمسلم والهندي سيترددون في قبول الفكرة، طالما أن "إسرائيل" تحتل أرضًا وشعبًا يوازي عدده شعبها. ثم إن دولة يهودية ليست هدية لطيفة للعقل البشري في القرون الحديثة التي لا يقبل فيها الناسُ الأعراقَ والأديانَ كهوياتٍ للدول.

وتسعى "إسرائيل" لقدسٍ غير مقسمة وتزحف ببطء نحو حرم المسلمين الثالث، وستجد نفسها يومًا مضطرة لطرد الأوقاف الإسلامية واستلام المفاتيح، وستفتح على نفسها صراعًا مع الهوية الإسلامية في العالم، وستنبش قبورًا لحرب دينية عمرها آلاف السنين. وسيكبر الصراع كلمة جديدة ليصير الصراع اليهودي - الإسلامي على المقدسات.

ستفتح إسرائيل على نفسها صراعًا مع الهوية الإسلامية في العالم، وسيكبر الصراع كلمة جديدة ليصير الصراع اليهودي - الإسلامي على المقدسات.

في السيادة الكاملة، حتمًا "إسرائيل" ستواجه سيناريو الأبارتهايد، جغرافيًا وسكانيًا، ستغرق الشوارع بالعنصرية وتصير الجدران براند عالمي عن ماركة "صنع في إسرائيل"، والمكان لن يعرف نفسه من كثافة العزل والتفريق والتخصيص والاستثناء والتعرية والإخفاء. وربما تنهار السلطتان في غزة ورام الله ذات فيروس قوي يجتاح العالم، وتصير "إسرائيل" مسؤولة صحيًا عن المناطق التي خصصتها للفلسطينيين.

على فداحة المشهد الذي حدث مساء أمس في البيت الأبيض، وكلله ترامب بالغمزات كما يحدث في ملهى ليلي لكبار السن أثناء صفقات آخر الليل، وكلله نتنياهو بالعلكة وشرب الماء لأن "الطريق طويل" وهو طويلٌ فعلاً. على فداحة المشهد، لكنه بدا غير عالمي مثلما حدث مع كارتر أو كلينتون في صور توقيع الاتفاقيات التاريخية، بل ظهر الوضع مع صفقة ترامب مثل حفل تخريج طالب ماجستير (جاريد) ثقيل ظل، ورسالته مفسدة معرفيًا، ولجنة الإشراف عليه متهالكة (فريدمان، غرينبلات). فكرةٌ غير مبدعةٍ لا اقتصاديًا ولا سياسيًا، وعلى المجتمع اليهودي الذي يخاف -على ذكائه- أن يحاسب قليلي الذكاء هؤلاء الثلاثة.

صباح اليوم، وبينما كنت أشتري القهوة من شارع الإرسال، ورغم قسوة الصباح في رام الله بسبب "الصفعة الأميركية"، كان الشاعر ماجد أبو غوش يلف سيجارته ويحوم حول الفنجان، بينما صديقه سامر صاحب المقهى يجهز القهوة الأميركية، وانفجرا فيّ: هات أشوف حلل!! طبعًا سكتت، فأطلقها سامر مدوية: يصفقوا إلي بدهم اياه، هينا قاعدين ولما يحتاجونا هينا موجودين.

ومع أن التوصية التي أطلقها سامر لم تصدر عن مركز دراسات، لكن أعتقد أنها تستحق التأمل الطويل، وبعيدًا عن سربية المقاومة كخيار وحيد، أو التسوية كحتمية ثقافية، فإن البقاء وعدم القبول موقف، لكنه سيتحول إلى اختفاءٍ إذا لم نُعد تقييم ممكناته ومقدراته وآفاقه ضمن دراسة مستقبل "إسرائيل السوبر"، ووضع السيناريوهات لكل حلقة عظمة إسرائيلية جديدة.


اقرأ/ي أيضًا: 

خطة الصهر اليهودي

صفقة القرن: ضجة الشعار وخفة السخرية

صفة القرن في 15 بندًا كما أعلنها البيت الأبيض