27-نوفمبر-2018

الصمت الذي خيّم على القضاة تجاه مسودة مسرّبة مجهولة النسب تتعلق بتعديلات قانونية تمس قانون السلطة القضائية الفلسطينية، وتكرّس هيمنة السلطة التنفيذية على القضاة، وما رافق ذلك من تنصّل السلطة التنفيذية من مسودة التعديلات، أثار استغرابًا واستهجانًا في الشارع الفلسطيني حول "الأب المجهول" لهذا المقترح القانونيّ الذي يشكّل تراجعًا ورِدّة كبيرة عمّا جاء في توصيات اللجنة الرسمية لتطوير القضاء والتي شكلها الرئيس، وقابلها القضاة بردّة فعل كان أبرزها إعلان قضاة المحكمة العليا عن استقالاتهم قبل أن يتمكنوا من الحصول على نسخة رسمية منها، وفقط لمجرّد تسريبات إعلامية حولها.

   المقترح الجديد لتعديل قانون السلطة القضائية يكرّس هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء  

المقترح الجديد لتعديل قانون السلطة القضائية يكرّس هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء، ويتيح على سبيل المثال إقالة رئيس المحكمة العليا من منصبه بقرار من الرئيس، لاغيًا بذلك الحصانة التي يتمتّع بها رئيس المحكمة العليا بموجب القانون الحالي، ويضمن بقاء رئيس المجلس الحالي ونائبه بعد تعيينه في المنصب إلى أن تنتهي ولايتهما بموجب القانون الحالي على عمر سبعين عامًا، بينما سيحال باقي القضاة إلى التقاعد عند عمر 65 سنة.

ويُمكّن المقترح الرئيس في بعض الحالات من عزل القضاة دون إتاحة فرصة الطعن لهم أمام القضاء، ويتحدّث عن استقلال مالي للقضاء في الموازنات والنفقات، فيما يحكم آلية الصرف في الامتيازات التي منحها المقترح للسلطة التفيذية من خلال أنظمة مالية يقرّها مجلس الوزراء، عدا عن زيادة الغموض في تبعية النيابة العامة.

   حال السلطة القضائية ليس بخير   

الغريب أنّ نسخة المقترح مجهول النسب، والذي وصفه البعض في الغرف المغلقة "ابن الحرام" تنصّلت منه الأطراف الرسمية الحكومية والقضائية وفقًا لمعطيات وردت إلى الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، وإشارات صدرت عن نقابة المحامين، كما حمل بنودًا لا يمكن تصنيفها سوى محاولة رشوة تأتي للقضاة على شكل مغانم مالية كعلاوة مخاطرة قيمتها 300 دولار أمريكي، وإعفاء جمركي يمكّن القضاة من تملّك سيارات شخصية خاصة لتنقّلهم، تكون قيمتها بنصف ثمنها في السوق، وراتب تقاعدي لرئيس المحكمة العليا يضمن 20% من راتبه عن كل سنة قضاها بالقضاء، على أن لا يزيد ذلك عن 80% من راتبه ولا يقل عن 50%، على خلاف تقاعد باقي القضاة. وقد بدت هذه المنافع كأنّها رشوة للقضاة ليصمتوا عن إقرار القانون في هذه المرحلة.

هذه ليست المرّة الأولى التي يُعلن فيها عن مسودة مشروع قانون مجهول النسب لتعديل قانون السلطة القضائية الفلسطينية، فقد طُرح في شهر آذار/ مارس 2017 مشروع آخر على طاولة مجلس الوزراء، لكنّها قوبلت بردة فعل فورية غاضبة من قبل القضاة قتلتها بمهدها.

    لم تعد القوانين قيمة تعلو فوق رؤوس الجميع كما يُفترض، بل إنّ بعضها أقرب إلى مداسات طبية تُسهّل مسارات البعض وتحميهم!

تقديم مقترحات لتعديل قانون بحجم قانون السلطة القضائية من قبل جهات مجهولة دون الكشف عن مصدرها يكشف حالة "السقم القانوني" الذي وصل له المجتمع الفلسطيني في العملية التشريعية، حيث صدر منذ عام 2007 ولغاية اليوم ما يزيد عن 240 قرار بقانون، بعضها فُصّلت تفصيلًا على مقاس أشخاص لضمان توليهم مناصب عليا، وأخرى فُصّلت لضمان تجريد آخرين من صلاحيات منحها إيّاهم القانون، ولم تعد القوانين قيمة تعلو فوق رؤوس الجميع كما كانت من قبل، بل إنّ بعضها أقرب إلى مداسات طبية تسهّل مسارات البعض وتحميهم وبذلك فقدت هذه القوانين قيمتها، وقد وصفها أحد القضاة بأنها "قوانين تُفصّل على المقاس".

وفي هذا السيل التشريعي كان قانون الجرائم الإلكترونية من أكثر القوانين رفضًا مجتمعيًا، حتى أُجبرت الحكومة على تعديله، وقانون الضمان الاجتماعي الذي ثار الشارع الفلسطيني ضدّه في هبّة هي الأشد فيما يتعلق بقضية داخلية فلسطينية منذ نشوء السلطة الوطنية.

   لا بُدّ من كشف من يقف وراء مقترحات التعديل هذه   

حال السلطة القضائية ليس بخير، ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية التي يقودها الائتلاف الأهلي لاستقلال القضاء، في طريقها لعقد مؤتمر شعبيّ للمطالبة بإصلاحات حقيقية في القضاء، بعد أن وصلت ثقة الشارع فيه إلى أقل من 36%، وأصبح ميدانًا للصراع وتصفية الحسابات الداخلية، بل إنّ إصلاحه أولوية فلسطينية، لكنّها لا يمكن أن تتم بتعزيز سيطرة الحكومة بالقوة أو حتى عن طريق صفقات تعقد في الخفاء مع مراكز قضائية. 

وفي كل الأحوال لا بُدّ من كشف من يقف وراء مقترحات التعديل هذه، والتي يسمح الواقع الفلسطيني بأن تُقرّ وتصدر وتنشر حتى دون علم الحكومة، ودون إشراك المعنيين، وعلى غفلة من الجميع!


اقرأ/ي أيضًا: 

أُعدّ في الظلام.. السلطة تخبئ قانونًا أسود للصحافيين

قانون الجريمة الإلكترونية: الأخ الأكبر يراقبك!

أخلاقيات طائرات "درونز"