02-أغسطس-2018

أنسى أحيانًا أن ريم البنا ميتة الآن، أحتاج لبضع ثواني لإدراك ذلك في كل مرة يتردد اسمها أمامي. تذكرني  أختي بذلك بينما تقول أنها ترى شبهًا كبيرًا بين وجه مي سكاف ووجه ريم البنا.

تُعلق الأغنيات الرديئة في الرأس بشكل سريع. يسخر الكثيرون من أغنية إليسا الجديدة ويتساءلون إذا ارتدت فستانًا أبيض هذا المرة أيضًا، ولكنهم يرددون الأغنية ويدندنون كلماتها. أفكر هنا بأغاني ريم وثورة مي التي تشبهها، وبعالم "السوشال ميديا" الذي جعل من التكرار وسيلة لزيادة وزن ما لا وزن له ولا قيمة.

ولا تصدق أبدًا من يخبرك أن الوصول متأخرًا أفضل من عدم الوصول نهائيًا، فهنالك أشياء لا قيمة لحدوثها  إن لم تحدث في الوقت المناسب

أقسى ما في الحياة على كل حال هي أنها جعلت من الموت ميزانها الخاص لتحديد قيمتها. لا شيء يمنح الحياة وزنًا مثلما يفعل الموت، وهذا قاسٍ لأنه أشبه بوصولٍ متأخر إلى الحقيقة، أو حب فات عليه الأوان ولم يعد صالحًا لبناء بيت أو إنجاب طفل. ولا تصدق أبدًا من يخبرك أن الوصول متأخرًا أفضل من عدم الوصول نهائيًا، فهنالك أشياء لا قيمة لحدوثها  إن لم تحدث في الوقت المناسب.

اقرأ/ي أيضًا: أنا ملالا الفلسطينية

حسنًا، للموت فوائده أيضًا، فلا تستغرب أن تزداد قدرة الإنسان على الحديث بعد الموت! نعم صوت الميت أعلى من صوت الأحياء، وكلماته مسموعة أكثر منهم، وتأثيره كبير، ولكن هذا كله مؤقت، وعلى المهتمين بهذه الكلمات أن يُجيدوا إمساك الوقت هنا لأنه سرعان ما يتبخر ويتلاشى ويُطفئ  معه الضوء الذي جلبه على الميت. الموت يمنحك دقائق، ساعات أو أيام قبل أن يحولك إلى كائنٍ منسي. وهنا يأتي التكرار كطوق لنجاة كلمات الميت وأفكاره.

"لا أريد لحافظ بشار الأسد أن يحكم ابني". أتخيل نفسي في غرفة تحقيق، هل أقولها؟ أنا أجبن من أن أقولها!

هذه الشجاعة التي تضع فيها امرأة عزلاء حياتها على المحك أمام ضابط تحقيق قاد الكثيرين قبلها وبعدها إلى الموت،  تتضاعف عندما تعرف أن مشهد الخوف هذا كان يمكن استبداله بمشاهد من الثروة والمقابلات التلفزيونية وأدوار رئيسية في مسلسلات رمضانية، كان يمكن استبداله بالكثير من فساتين السهرة وأضواء الكاميرات والسجاد الأحمر!

مي تنازلت عن كل هذا وحافظت على وجهها الغاضب الحزين مشاركـًا في مسيرات الحرية السورية. أي جاذبية هذه! أي انشغالٍ أبديٍ للقلب ستسببه امرأة كهذه! هل يمكن للتكرار هنا أن يبقيها على قيد الحياة فترة أطول؟ نحتاجها هنا، هنا حيث تنال وظائفنا من آرائنا السياسية، حيث يحولنا المشي بجوار الحائط إلى كتلة اسمنتية شبيهة بالحائط، صامتة لا صوت لها.

وأنت تتابع هذا العالم، سيبدو لك أن مهمة الحياة الأساسية هي جعل كل شيء عابر وسريع وعملي، جعل الأيام تمضي على "خير" وصولاً إلى النهاية. مثل الأغنيات الرديئة التي يساعدك تكرارها على تقبلها بل وترديدها، هكذا ستكون أيامك، ستكررها وستتقبلها حتى يحين وقت النهاية. أما هؤلاء الذين يرفضون العملي والسريع، يرفضون "الخير الرديء" الذي سيقودهم ببطء ورتابة إلى النهاية، سيثورون وسيعلموننا كيف نستبدل أرصفة الحياة الآمنة بطرق الثورة الوعرة.

"ظلت ساحرة حتى لحظاتها الأخيرة، أعرفتها؟ هي كليوبترا" نُقشت هذه العبارة على قبر كليبوترا، فهل يمكن نقشها أيضًا على قبر مي سكاف؟ تبدو مناسبة تمامًا لوجهها الجميل الغاضب.


اقرأ/ي أيضًا:

إسرائيل أمامكم.. والكثير من العرب خلفكم

شمس تخطئ اختيار إخوتها

هذا الحب لاجئ من يافا