05-أبريل-2021

الشاعران عز الدين المناصرة، وأحمد عزيز، صاحب الجفرا الأوّل/ 1982

 

"مَنْ ﻟﻢ يعرْف جفرا... فليدفن رأْسَهْ

من ﻟﻢ يعشق جفرا... فليشنق نَفْسَهْ

فليشرب كأْسَ السُمِّ الهاري،

يذوي، يهوي... ويموتْ

جفرا جاءت لزيارةِ بيروتْ

هل قتلوا جفرا عندَ الحاجزِ في أيلول

أمْ صلبوها ﻓﻲ التابوت؟؟!!

أم أنَّ الوحشَ الطائرَ،

أطلق في الفجر قذيفتهُ،

نحو الوردةِ، نحو مخدَّتها

في الزمن المغلولْ".

هذا مجرّد مطلع قصيدة ملحمية للشاعر الذي رحل أمس إلى جوار ربه (عز الدين مناصرة)، من هي جفرا؟ هل هي حبيبة الشاعر، أم هي وطنه المسبي؟

"جفرا، الوطنُ المَسْبيّْ

الزهرةُ، والطلْقةُ، والعاصفةُ الحمراءْ

جفرا – إنْ ﻟﻢ يعرفْ، مَنْ ﻟﻢ يعرفْ 

غابةُ بلّوطٍ ورفيفُ حمامٍ... وقصائدُ للفقراءْ

جفرا – من ﻟﻢ يعشق جفرا

فليدفنْ هذا الرأسَ الأخضرَ ﻓﻲ الرَمْضاءْ

أوْ تحتَ السورْ

أرخيتُ سهامي، 

قلتُ: سمائي واسعةٌ والقاتلُ محصورْ

منْ ﻟﻢ يخلع عينَ الغولِ الأصفرِ... 

تبلعُهُ الصحراءْ".

لن نستطيع قراءة القصيدة الطويلة البديعة دون أن تقفز أعيننا بحثًا عن المقاطع القليلة التي لحّنها وغنّاها مارسيل خليفة، ويبقى السؤال من هي جفرا؟ أهي بحسب القصيدة "جفرا" التي تلحق بالباص القروي أم "جفرا" الطالبة في جامعة العشاق؟ أهي "جفرا" التي ظلّت تبكي في الكرمل أم "جفرا" التي ظلت تركض في بيروت؟ أهي "جفرا" التي قتلوها عند الحاجز في أيلول، أم "جفرا" التي لجأت من الكويكات قرب عكا لتموت في برج البراجنة قرب بيروت؟

 العشق واحد في كل مكان وقلوب العشاق متماثلة في كل مكان، ومهما كان الاسم فالشعور واحد والحرقة واحدة. ولكل عاشق ولكل شاعر جفراه 

الصورة المنشورة في أكثر من موضع للشاعر عز الدين مناصرة مع شاعر الجفرا وراعيها أحمد عزيز تعطي أبعادًا أعمق للقصة فمن هو راعي "الجفرا" من هو الشاعر أحمد عزيز؟

هو أحمد عبد العزيز علي الحسن المعروف بـ "أبو علي الجفرا" والمولود في قرية "كويكات" قضاء عكا عام 1916، حيث كان معظم سكان قريته من المزارعين ومربي المواشي، أما هو فقد عمل تاجرًا ثم حلّاقًا وبدأ بكتابة الشعر وترديده في الأفراح.

وجاء في كتاب "قرية كويكات" للحاج عبد المجيد العلي أن أحمد عبد العزيز شارك في معركة البروة عام 1936 وأن الإنجليز اعتقلوه في سجن عكا لثلاثة أشهر ظلت تمدد حتى أنهى عامًا كاملًا خرج بعده ليلحق بالثوار.

تزوج من ابنة عمه "رفيقة نايف الحسن" والتي اشتهرت بجمالها ودلالها نظرًا لكونها وحيدة والديها، كما اشتهرت بأناقتها حيث كانت والدتها خيّاطة ماهرة تحرص على حسن هندام ابنتها.

لأسباب مجهولة لم يدم زواجهما فتركته ورفضت كل المحاولات لإرجاعها، ثم تزوجت من ابن خالتها محمد الإبراهيم والذي ينتسب لعائلة "ابريق" وأنجبت منه ابنًا أسمته كامل وبنتًا أسمتها معلا.

 حزن لفراق زوجته ولم يستطع البوح بحبّه صراحة بعد زواجها من غيره، فأطلق عليها لقب "جفرا" وكتب وأنشد لها آلاف الأبيات من الشعر الشعبي 

حزن لفراقها ولم يستطع البوح بحبّه صراحة بعد زواجها فأطلق عليها لقب "جفرا" وكتب وأنشد لها آلاف الأبيات من الشعر الشعبي بادئًا كل قصيدة باسم "جفرا" مبتدعًا بذلك نمطًا جديدًا من الشعر الشعبي.

وبحسب الشاعر عز الدين مناصرة ((1946-2021) فإن هذا النمط الذي ابتدعه "راعي الجفرا" عام 1939 تحوّل إلى نمط غنائي مستقل خاصة وأنّ صاحبه كان ذا صوت شجيّ وحنون، وسرعان ما انتشر في عموم فلسطين ثم لبنان وسوريا والأردن، وتحوّل من شعر غزلي إلى ثوري يُسطر البطولات ويحرّض على الثورة.

تزوج الشاعر أحمد عزيز عام 1941 من ابنة قريته خديجة خليل الخالد وأنجب منها بعد 4 سنين ابنه البكر علي، ولكنّه ظلّ على حبّه الأول حتى طبع كتابه الشعري الأول والوحيد "الجفرا" في مطبعة نعيم فرح بحيفا، وأعاد طباعته بمطبعة أولاد البياع في عكا وباع منه 1500 نسخة.

قدّمه فخري عارف الحسيني للملحن يحيى السعودي واتفق معه على غناء مجموعة من أغاني الجفرا في إذاعة القدس عام 1944 مقابل 4 جنيهات فلسطينية في الأسبوع.

شارك في صد الهجمات الصهيونية المتكررة على قريته حتى سقطت ليلة الحادي عشر من شهر كانون ثاني/ يناير عام 1948 وكان يومها أوّل أيام شهر رمضان.

وبحسب الباحث "إياد حياتلة" والذي تتبع قصة الجفرا من بدايتها إلى نهايتها فقد لجأ الشاعر إلى مخيم الرشيدية ثم عين الحلوة، وأمّا مطلقته "جفرا" فقد استقرت مع زوجها في مخيم برج البراجنة ثم حارة حريك وعملت في الخياطة والتطريز كوالدتها وأنجبت عاهد وخليل وصائب ومايز.

ومما أورده الباحث "حياتلة" فان شاعرنا أقام في لبنان وكتب مع انطلاق المقاومة عدة قصائد بينها:

جفرتنا يا هالربع نزلت عَ المدينة

صارت تغني وتقول يحيا الفلسطيني 

تحيا يا ابن لبنان يا ذراعي اليمين 

يا شريكي بدرب التحرير ضد الصهيونية

كما كتب الميجنا ومن أبياتها:

ناوي بأرض الخصم يا صاحب أمُر 

واسقي للخصم كاسات من علقم أَمَر

لمن فدائيينا بتتلقى أمِر 

بتهجم عَ الخصم هجمة ذياب

عاش مرارة اللجوء وتوفي بحسب الكاتب "ياسر علي" في "الناعمة" أثناء حرب "مغدوشة" عام 1987 تاركًا ابنه علي وزوجته الثانية التي عرفت باسم "أم علي الجفرا"، وأما "جفرا" الحقيقية فقد توفيت مطلع 2007 في برج البراجنة.

عثر الشاعر "سعود الأسدي" على نسخة من قصائده ونشرها على حلقات في صحيفة "الاتحاد الحيفاوية" عام 1987، كما أُعيدت طباعتها في مدينة عكا عام 1999 تحت عنوان "شرح ديوان الجفرا".

تحوّلت "الجفرا" إلى رمز تراثي فلسطيني حملته العديد من الأعمال الفنية والمؤسسات الشعبية وتسمّت به العديد من الفتيات الفلسطينيات واللبنانيات، وخلّده الشاعر عز الدين المناصرة في كتابه "الجفرا والمحاورات"، وفي قصيدة "جفرا" التي غنّاها مارسيل خليفة وخالد الهبر، كما عزفها العراقي نصير شمة وأنشدتها فرقة العاشقين.

جفرا عنبُ قلادتها ياقوتْ

جفرا، هل طارت جفرا لزيارةِ بيروت؟

جفرا... كانت خلفَ الشُبَّاكِ تنوحْ

جفرا... كانت تنشدُ أشعاراً... وتبوحْ

بالسرِّ المدفونْ، المغمورْ

جفرا أُمّي إنْ غابتْ أُمّي

ﻓﻲ شاطئ عكّا... البيضاءِ الدورْ

وأنا لعيونكِ يا جفرا، سأغنّي

لفلسطينَ الخضراء... أُغنّي

سأغنّي لجفرا

سأُغنّي. 

هذه المرّة لا أستطيع أن أردد عن كبير قناعة مقولة الشاعر محمود درويش: "هزمتك يا موت الفنون جميعها". 


اقرأ/ي أيضًا: 

كتابان في التاريخ والحضارة لأكاديميين فلسطينيين

معرض فنيّ عن هوية البيوت الفلسطينية.. دعوة للمشاركة

بإمضاء كرم أبو علي.. فيلم "رمادي أزرق أبيض": أسيرات يتذكرن