29-أكتوبر-2019

مقال رأي | 

أعاد قرار محكمة صلح رام الله حجب 59 موقعًا إلكترونيًا ومنصّة على موقع "فيسبوك" بطلب من النيابة العامة، النقاش مجددًا حول قانون الجرائم الإلكترونية، والذي بناءً عليه صدر قرار المحكمة المذكور في (17 تشرين أول/ اكتوبر). فثمة دعوات الآن صادرة عن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ونقابة الصحفيين ومؤسسات المجتمع المدني وعديد المراقبين الحقوقيين لضرورة إعادة دراسة القرار بقانون بشأن الجرائم الالكترونية وتعديله، بما يؤدي إلى انسجامه مع القانون الأساسي، ومع اتفاقيات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان التي انضمت إليها فلسطين، سيما وأن الخطاب الرسمي المعلن للأجهزة الرسمية الفلسطينية في الوقت الحالي هو الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما تسعى فلسطين لتسويقه محليًا ودوليًا لاعتبارات مختلفة.

        فكرة تقييد الحريات ما تزال واضحة تمامًا وطاغية على معظم نصوص القرار بقانون رقم (10)       

عند الحديث عن "تشريع" مكافحة الجرائم الإلكترونية، فلا بد من العودة سنتين للوراء، حين أصدر الرئيس محمود عباس في تموز/ يوليو 2017، القرار بقانون رقم (16) لسنة 2017 بشأن الجرائم الإلكترونية ليشكّل بذلك أول إطار تشريعي لمكافحة الجرائم الإلكترونية في فلسطين -القرار بقانون رقم (16)- والذي كان للنيابة العامة دور محوري في صناعته وصياغة نصوصه على خلاف مبدأ الفصل المتوازن بين السلطات.

لاقى القرار بقانون انتقادات فلسطينية واسعة، لخطورته على حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وبخاصة، الحق في حرية الرأي والتعبير، وحق الإنسان في الخصوصية وحرمة حياته الخاصة، وعزز من قلق ومخاوف مؤسسات المجتمع المدني التقارير الصادرة عن منظمات دولية غير حكومية مثل منظمة العفو الدولية "أمنيستي"، و"هيومن رايتس ووتش" التي قالت إن مثل هذه القوانين استخدمت في عديد من دول المنطقة كأداة لقمع المعارضين السياسيين والتضيق على الحريات.

وبناءً على هذه المخاوف المبررة، طالبت مؤسسات المجتمع المدني بضرورة التراجع عن القرار بقانون، سواء بإلغائه أو تعديله، أو بوقف نفاذه إلى حين إخضاعه لنقاش مجتمعي على أقل تقدير.

وفي سياق تلك الظروف، بعث المقرر الخاص في الأم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير "ديفيد كاي"، مذكرة خطيّة للحكومة الفلسطينية منتصف حزيران/ يونيو 2017 بناءً على بلاغين أرسلتهما "مؤسسة الحق"، يطالب فيها السلطات الفلسطينية باتخاذ جميع الخطوات الضرورية لاستعراض القرار بقانون رقم (16) لسنة 2017 بشأن الجرائم الإلكترونية ومراجعته لضمان تماشيه مع الالتزامات التي يرتبها القانون الدولي لحقوق الإنسان على فلسطين. وذلك بعد استعراضه في المذكرة خطورة نصوص القرار بقانون وتهديدها للحق في حرية الرأي والتعبير. وقد أرسلت الحكومة الفلسطينية ردًا مكتوبًا على مذكرة المقرر الخاص في العاشر من أيلول/ سبتمبر 2017، أكدت فيها عملها على مراجعة القرار بقانون رقم (16) لسنة 2017 بأسرع وقت ممكن.

وعلى إثر الحراك المحلي - الحقوقي المطالب بمراجعة القرار بقانون رقم (16)، ومذكرة المقرر الخاص المذكورة - والتي يعتقد الكاتب أنها كانت المحرك الرئيس لإلغاء القرار بقانون المذكور، أصدر الرئيس عباس في 24 نيسان/ ابريل 2018 القرار بقانون رقم (10) لسنة 2018 بشأن الجرائم الإلكترونية، وهو "التشريع" الذي استندت إليه محكمة صلح رام الله في إجابة طلب النيابة العامة بحجب تلك المواقع، وهو التشريع الذي ما يزال يحاكم بناءً عليه عدد من المواطنين والصحفيين.

اقرأ/ي أيضًا: يوم الحجب الأكبر

القرار بقانون الجديد -والذي كان للنيابة العامة دور في صناعته وصياغته- ألغى صراحةً القرار بقانون رقم (16) لسنة 2017، ولم يأت في معظمه بنصوص مجرمة لأفعال بموجب مصطلحات عامة وفضفاضة كما كان سابقه، من قبيل تلك النصوص التي كانت تجرم نشر الكتابات أو الصور أو أي مواد من شأنها المساس بالأمن القومي أو النظام العام أو السلم الأهلي أو الآداب العامة وغيرها من المصطلحات العامة الفضفاضة، التي لا تصلح من الأساس أن تكون نصوصًا للتجريم والعقاب، سندًا لمبدأ الشرعية الجنائية، والذي يفرض أن تكون نصوص التجريم والعقاب واضحة لا لبس فيها، لا تترك مجالًا لأجهزة إنفاذ القانون والقاضي بتفسيرها والاجتهاد بشأنها.

كما جاء "التشريع" الجديد بعقوبات أقل قسوة من سابقه، فكانت عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة حاضرة في معظم نصوص القرار بقانون رقم (16) لسنة 2017. وأدخل القرار بقانون الجديد بعض التعديلات على صلاحيات المحكمة والنيابة العامة في مراقبة الاتصالات والمحادثات الإلكترونية لجهة تحديدها أكثر دون أن تكون مثالية تمامًا.

وتم النظر إلى النصوص الجديدة التي جاء بها القرار بقانون رقم (10)، على أنها تحمل تقدمًا ملحوظاً عن القرار بقانون رقم (16)، لا سيما لجهة استبعاد التجريم بموجب مصطلحات عامة وفضفاضة -باستثناء موضوع الحجب- ولجهة التخفيف من قسوة العقوبات وعدم تناسبها مع الجريمة. إلا أن القرار بقانون الجديد في المقابل، لم يلغ أو يدخل تعديلات جوهرية على نصوص مهمة كانت محط انتقادات مؤسسات المجتمع المدني والمقرر الخاص، كتلك النصوص المتعلقة بحجب المواقع الإلكترونية، فالمادة (39) من القرار بقانون رقم (10)، ما زالت تسمح بحجب المواقع الإلكترونية بناءً على أسباب غير محددة، مثل: الأمن القومي، النظام العام، الآداب العامة، مثلها في ذلك مثل سابقتها (المادة 40) في القرار بقانون رقم (16)، مع تحديد المادة الجديدة لمدة الحجب بستة أشهر قابلة للتجديد لمدة غير محددة.

كما لم يلحظ في التشريع الجديد تغييرات جوهرية على النصوص المرتبطة بصلاحيات أجهزة إنفاذ القانون في تفتيش الأجهزة الإلكترونية والحصول على بيانات المرور؛ أي تلك النصوص المتعلقة بالحق في الخصوصية وحرمة الحياة الخاصة، حيث بقي معظمها على الحال التي كانت عليه في القرار بقانون رقم (16).

بل أكثر من ذلك، لم يكن حقيقيًا البتّة استغناء التشريع الجديد عن المصطلحات العامة والفضفاضة في تجريم بعض الأفعال وهي التي شكلت مادة مهمة جدًا في تسويق القرار بقانون رقم (10)، إذ إن الأخير قد فتح المجال مجددًا لتجريم عديد الأفعال التي ترتكب باستخدام الشبكة الإلكترونية بموجب مصطلحات عامة وفضفاضة، ولكن من باب آخر، أو بعبارة أدق باستخدام تشريعات أخرى، أهمّها قانون العقوبات الأردني لسنة 1960، وقانون المطبوعات والنشر لسنة 1995، وغيرها من التشريعات العقابية سارية المفعول، والتي تتضمن نصوصًا تجرم أفعالًا بموجب مصطلحات عامة وفضفاضة.

اقرأ/ي أيضًا: شاشة بشعة في رام الله

فالمادة (45) من القرار بقانون رقم (10)، نصّت على معاقبة كل من ارتكب فعلًا يشكّل جريمة بموجب أي تشريع نافذ باستخدام الشبكة الإلكترونية أو بإحدى وسائل تكنولوجيا المعلومات، أو اشترك فيها أو تدخل فيها أو حرّض على ارتكابها، ولم ينص عليها في هذا القرار بقانون، بالعقوبة ذاتها المقررة لتلك الجريمة في ذلك التشريع. وهذا يعني أن نصوص قانون العقوبات الأردني لسنة 1960، المجرمة لأفعال وكتابات بموجب نصوص عامة وفضفاضة من قبيل جرائم الذم والقدح وإطالة اللسان وقدح المقامات العليا وإثارة النعرات العنصرية والطائفية، هي مجرمة أيضًا بموجب المادة (45) من القرار بقانون رقم (10)، وذلك إذا ما ارتكبت بإحدى وسائل تكنولوجيا المعلومات.

يقودنا هذا إلى القول بأن التشريع الجديد لم يأت بالجديد، وكل ما جاء به هو فقط "وهم التعديل" الذي جنّب الحكومة استمرار انتقادها بشأن قانون الجرائم الإلكترونية. فالحكومة لم تستجب تمامًا لمطالب مؤسسات المجتمع المدني والمحددة بصورة دقيقة، كما أنها لم تف بوعدها للمقرر الخاص، ففكرة تقييد الحريات ما تزال واضحة تمامًا وطاغية على معظم نصوص القرار بقانون رقم (10).

الأمر الذي يدفع إلى القول بأن مؤسسات المجتمع المدني والحراك الحقوقي حول قانون الجرائم الإلكترونية، قد أخطأوا في التوقّف عن المطالبة بتحقيق جميع مطالبهم الواضحة، فلم تظهر هذه الدعوات من جديد إلا بعد "تسريب" قرار محكمة صلح رام الله، والذي كان بمثابة تجديد لقرار سابق بالحجب، ولكن الجديد في الموضوع كان "التسريب"، وضم مواقع جديدة لقائمة الحجب.


اقرأ/ي أيضًا: 

زعيتر يكتبني: حطموا الأقلام!

خطيئة حجب المواقع الإلكترونية

عن موظف الدعم الفني: المقموع والقامع