15-أكتوبر-2015

منتفضون يحملون عمود كهرباء لاستخدامه كحاجز أثناء مواجهات قرب رام الله (Getty)

يستطيع المتابع للمشهد الجاري أن يلمح اندفاعًا عاطفيًا تصاعديًا، غير مؤدلج ولا يتبع أي أجندة سياسية، بات يعبّئ الشارع الفلسطيني شيئًا فشيئًا. ثمة بؤر نظيفة وخالية من رائحة الروث الحزبي تحاول دمل الشروخات التي أحدثتها غيلان أوسلو والسلطة والحكومة الخضراء في غزة على مدار سنين مضت. 

ليس باستطاعة أي طرف أن يفرغ هذه الهبّة من مضمونها، لأنها لا تنساق خلف دعوات عرّابي الوصول والانتهازية

وعلى الرغم من أني غير متفائل إلى حد بعيد بإرهاصات الأحداث المشتعلة هنا وهناك، لأنني مستندٌ بالقياس على نتائج انتفاضتين سابقتين لم يؤتيا ثمارهما كما يجب، إلا أنّ رائحة الوعي المتشكّل في عقول جيل ما بعد أوسلو بدأنا نشمّها بوضوح، يخرج الفتى ذو الثمانية عشر عامًا وهو يفكّر في شيءٍ واحد أن فلسطين فقط من تدفع بخطواته تجاه المطبخ، كي يستعير سكّين أمه ويذهب بها بعيدًا ليصنع قدره كيفما تملي عليه مشيئته.

هذه المرحلة مهمة وتؤسس لتاريخ نضالي جديد ضد إسرائيل، فهي تسعى جاهدةً أن تعدم سياسة التردّد والانكفاء، وأظن أن ليس باستطاعة أي طرف بعد الآن أن يفرغ هذه الهبّة من مضمونها لأنها بالأساس لا تنساق خلف دعوات عرّابي الوصول والانتهازية، الشريان الفلسطيني بات يحوي الآن أكثر من أي وقتٍ مضى دمًا متقدًا ومتجددًا ونظيفًا.

رئيسة وزراء إسرائيل السابقة جولدا مائير، حين قالت بأن الكبار من الفلسطينيين، الذين شهدوا النكبة سيموتون بعد وقت، والصغار ممن لم يعيشوا وقائع النكبة لن يتذكروا، لم تكن تعرف أن أجيالًا يافعة ستأتي بعد أوسلو، أجيال غاضبة لن ترضى بما ارتضاه أجدادهم قسرًا في عام1948، أجيال رفضيّة لم تأتِ لتهدمَ أصنامًا جامدة منذ ذلك الحين، بل لتهيل المعبد على رؤوس نسّاكه، هذه الأجيال تحديدًا هي التي ستكسر القاعدة، وستضع قواعدًا جديدة من صنع يدها ولحمها للمواجهة.

وبالطبع لا أغفل عن كون هذه المواجهات الجارية لا تخضع لمنطق التعبئة التنظيمية التي بدورها تصبّ في نهاية الأمر لمصلحة الحزب، بل تديرها فردانيّة الوعي الفلسطيني الشابّ، وهذا ما يميّزها وما يضفي عليها نوعًا من الغموض والهيبة والتكنيك النوعي المفاجئ، أما زمن الأجيال المؤمنة بالقائد المعصوم المبهورة بعظمته وحكمته وبحديثه الذي يبدو كأنه محفور على رخام النصب التاريخية فقد ولّى.

بتُّ في اليومين الأخيرين مراهنًا تمامًا على هذه الطليعة لأنها أدركت -وإدراكها لم يكن متأخرًا- أن الجريمة التي تمارسها آلة الفتك الإسرائيلي تهدف إلى ما هو أكبر من الخطأ بحقّنا، إنها تعمدْ إلى التّدنيس، لقد دنّسوا حقّنا في الحياة وحقّنا في استخدام الكهرباء، وحقّنا في التجوال، وحقّنا في اللعب، وحقّنا في الصلاة، وحقّنا في التسوّق والسّفر والذهاب إلى البحر والزواج والاطمئنان على الأصدقاء، والأنكى من ذلك أنّهم دنّسوا ذاكرتنا، ولم تعد المواجهة بالطريقة التي نريدها خيارًا، بل حتميّة وجودية، حتميّة البقاء.

اقرأ/ي أيضًا:

في الخصوصية الفلسطينية

المسافة بين القيادة والشارع