طفلتي التي رافقتني في المظاهرات والتقطت لنفسها صورًا وهي تحمل دفتر "طلائع البعث"، الذي ألزمتها به المدرسة، لتشطب كلمة "البعث" وتكتب "الثورة".. فاجأتني، بعد نزوحنا إلى تركيا، بسؤالها: "ها هي الثورة فأين حنظلة؟".
ولادة حنظلة من بنات أفكار ناجي العلي كانت معادلًا لاكتشاف النار في تاريخ الشعوب
كان سؤالًا عميقًا يرج الذاكرة، فقد رويت لها عن طفل جَسور يدير ظهره وكأنه يطلب منا أن نتبعه، كنت أقرأه -أنا المأخوذ بحب التظاهر وحيدًا ولم أستطع- على أنه تمرد وسط محيط متربص، ولأن روح التآزر والتشارك في مواجهة خطر ما منتفية كما يقول علم النفس الاجتماعي، فذلك يعني عنفوان التمرد سعيًا إلى حياة بكل توثبها نحو حلم عصي. معالم وجهه ليست تهمّ إذ علينا أن نقرأه بما تحمل كفه، تلك حكمة الحجر ولوحته وطوطمه لتستحث فينا أكثر من حاسة، حتى يغدو للنظر أنامله التي تتلمس خشونة حجر بكف صغيرة وناعمة، تستحضر فينا حجرة النبي الطفل داوود التي قتل فيها جالوت كما تقول الروايات.
الحجر في يده قطعة من ذاك الجدار الذي بني على صدور الكثير ففتح كوة لعقولنا المكتظة بالحدود، أو لكأنه جزء من الحجرة التي بناها المعمار الماهر بحيث لو سُحبت ينهار قصر الملك، لكننا لم نقدر ذلك ولو اتبعناه لفزنا بمعرفة الحجرة التي تهدم قصور الأرباب العصية. ولعلي أدعي أن ولادة حنظلة من بنات أفكار ناجي العلي كانت معادلًا لاكتشاف النار في تاريخ الشعوب لما له من إضافة لسِفر التمرد والثورات، وبما أنه -إذ لم يقصص رؤياه على أحد- عانى كل ماعاناه فقد تنطع للجميع، فروى يوسفَ وإخوتَه وبراءة الذئب من دمه، ليست هدنة مع الذئب أن أتعرف إخوتي والصفح أكبر من حجم الإثم.
للشعر نبوءة وللمثقف نبوءته أو قراءته التي تشي بنبوءة ما، وكذا ناجي العلي تنبأ بانتفاضة الحجارة بحنظلة. يقول إدوارد سعيد "المثقف مبشر"، هكذا قدم ناجي العلي عبر حنظلة استشرافًا لما آلت وستؤول إليه الأمور في دولنا التي انكمشت لتنتفخ السلطات، فاستعان بالحجر كمعول للهدم وكانت الكلمة أول البناء، و"في البدء كانت الكلمة" التي تعبر عن فكرة تفتق نهجًا ورؤى.
لعروة بن الورد وتأبط شرًا إذ خرجا على ناموس القبيلة ومضة أيضًا في متن هذا السرد، فهم أفراد كانوا بحجم شعوب بأحلامهم لا بحجم مؤيديهم، وبعنفوان ما طرحوه بعيدًا عن تخاذل المحيط، فبنوا مملكة في العراء بمفاهيمها وتمردها وتجردها، وعبّروا عن جَسرِ هوة لا بد من تجاوزها، شكلت ما يشبه ضميرًا جمعيًا لدى الصفوة لحين.
دخل حنظلة كل البيوت، لم يكن متسولًا على الأبواب المواربة، ولا بهلولًا يفرغ طاقة ضلّت طريقها بانفلات عقل لم يحتمل الحقيقة. ولا محاكيًا مأساة سيزيف من آلهة خشيت إدراكه حقيقتها فحكمته بحمل الصخر، مرة تلو أخرى. حنظلة شعلة طاقة فياضة في قراءة الواقع، وتوجيهها نحو معرفة تتسق تمامًا مع طفل يحمل الحجر وكأنه حجر الحكمة، الذي استعانت به كليوباترا لاستعادة توازنها، أو حجر الخيميائي الذي يشترط الحكمة والمعرفة والصفاء، قبل صنع الذهب الذي يغدو رخيصًا لسد الرمق ليس إلا.
لا تبدأ فكرة حنظلة مع حنظلة نفسه، بل تمتد إلى تاريخ طويل من الرفض الإنساني
لا تبدأ فكرة حنظلة مع حنظلة نفسه، بل تمتد إلى تاريخ طويل من الرفض الإنساني، هكذا ستجدها في مأساة سيزيف المتمثلة بالحجر الذي صار مفتاحًا لفضح الآلهة (اقرأ: الأنظمة). حنظلة الطفل كان يحمل أيضًا شعلة بروميثيوس خلف ظهره.
هو حامل الحجر أو النار، ينقلها من جيل إلى جيل، ومن بلاد إلى بلاد هي جذوة الخلود أو عشبته، وهي "الفكرة " التي تنير الطريق و التي قال مالك بن نبي أنها مدماك حضارة أي شعب قبل منتجه المادي، وحنظلة بلا شك يحمل الفكرة والطريق إليها ومآلها وما ذاك إلا لأنه من قلم مثقف يمثّل المعنى الحرفي للكلمة: "الرمح الذي شذب وأزيلت زوائده".
سؤال ابنتي إيمار عبّر عما تحتاجه شعوبنا من عمل المثقف الرائد، كي نستشعر الهوّة في ثوراتنا ومدى حاجتنا إلى حنظلة الغائب، أو المغيّب، لينوء بما كان ينوء به أبوه ناجي العلي، وهو يؤكد أن الثورات لا تبنى على النزوع إلى الحرية فقط، بل تتعثر ما لم تبنِ أفكارًا لعالم جديد، وتفرز عقولًا ومناهج ورؤى في دواخلنا، وهذا يعني أن الإطاحة برأس نظامٍ أسهل بكثير من بناء نظام على أنقاضه.
من سيكون حنظلتنا؟ ومتى يخرج من سردابه المجهول؟
اقرأ/ي أيضًا:
الانتفاضة التي يريدها أبو مازن