04-أكتوبر-2016

الشهيد نزيه أبو السباع وضريحه

في أوقات غير محددة، قبل النوم على الأغلب، تظهر أمام وجهي صورة لشهيد، نزيه أبو السباع.

تستحوذ عليّ، وفي غالب الأحيان أظن هذا الظهور طريقة الشهداء في العتاب، وفي أحيان أكثر عقلانية أرى صورته طيفًا قادمًا من الطفولة.

درسني نزيه أبو السباع مادة العلوم في مدرسة الإيمان الابتدائية في جنين، كان نحيلًا جدًا، أسمر طويلًا، بوجه مجفف، ولطف لا يحتمل. يمكننا رؤية الخجل الطاغي على وجهه حين تتحدث إليه إحدى المعلمات. لم أكن أعرف عنه شيئًا سوى أنه من المخيم.

في ظهيرة ما، اختلفت مع صديق في كنية أحد الشهداء المعروفين، وعجز كل المحيطين بنا عن معرفة الإجابة، حتى قال لنا أحدهم: اسألوا نزيه.

وبعد صلاة ظهر في جامع جنين الكبير كان الأستاذ نزيه يلبس شبشبه الطويل ذا الإصبع ويهم بالخروج، فداهمناه بالصراخ: أستاذ نزيه أستاذ نزيه..

ضحك من السؤال وألقى الإجابة دون تفكير وذهب. عرفنا يومها أنه خبير بالشهداء.

بعد أيام، أو ربما أكثر من أيام، ولكن هذا ما تقوله الذاكرة المضغوطة، (بالتاريخ الدقيق كان 16 شباط 2002)، من البيت في أعلى المدينة شاهدت دخانًا أسود يتصاعد قريبًا من مدرستنا.

دقائق ونسمع الخبر.

سيارة مفخخة على طريق مدرستنا تنفجر وتقتل الأستاذ نزيه، في طريق عودته من المدرسة إلى بيته.

شاهدت السيارة بعد يومين، أول ما فكرت فيه أنهم لم يكونوا بحاجة لكل هذا الانفجار! الأستاذ نزيه يمكن أن تحمله هبة ريح قوية!

أما لماذا يغتالونه بتلك الطريقة المتفجرة فهذا ما احتجنا لأيام حتى نعرفه.

كنت صغيرًا لا أتابع الأخبار إلا مكرهًا ولا أدري ماذا يقول شارون. ولكن البوستر الذي ظهر فيه نزيه أبو السباع شهيدًا، أستاذنا نزيه، كان يقول إنه مسؤول عن محاولات نقل الصواريخ من غزة إلى الضفة! هكذا بكل وضوح، نصف جسد الأستاذ نزيه العلوي وإلى جانبه عدة صواريخ برؤوس حمراء!

بعد أيام سمعت أن شارون قال إن إسرائيل نجحت في التخلص من "قنبلة موقوتة".

أصبح الأستاذ نزيه خبيرًا في كل شيء، بعد أن كان خبيرًا في كنيات الشهداء فقط. صار خبيرًا بالفيزياء وقوانين المقذوفات وطرق التهريب، والمسافة الحرجة بين قلقيلية والساحل، والتي يعني امتلاك صواريخ فيها، إمكانية شطر إسرائيل إلى نصفين.

صار الأستاذ نزيه شخصًا آخر عند استشهاده، أو كأننا اكتشفنا نزيه أبو السباع على حقيقته، كأن الشهادة ولادة لشخصه الحقيقي.

بقميص أصفر خفيف، وبنطال قماش بنيّ، وحزام استنفد كل إمكانية شده أكثر وما زال مرتخيًا، وشبشب طويل بإصبع، وشعر مليء بالشيب وشبه لحية غير حليقة.. أتذكر الأستاذ نزيه".