مقال رأي |
أثار مؤشّر الفساد الدولي الذي أصدرته منظمة الشفافية، ونشرت نتائجه مؤسسة أمان في فلسطين، ونفّذه مركز قياس لاستطلاعات الرأي والأبحاث، ردود فعل قاسية ضدّ التقرير وضدّ "أمان"، وصلت حدّ التحريض عليها. أقسى تلك الردود -من وجهة نظري- كان ردّ الحكومة رغم دبلوماسيّته العالية.
يقع على عاتق الحكومة ضمان حقّ الناس في التعبير عن رأيها، لا تحليل الآراء والأبحاث لترد عليها، بل لتستفيد منها إن كان في ذلك فائدة في بناء سياساتها، وفي حال كانت تلك الآراء مجرّمة وتمس سمعة فرد أو جماعة، فمن حقّ من مُسّت سمعتهم اللجوء الى القضاء.
نحن مجتمع طاهر، لا فساد فيه بحمد الله، لا وساطة ولا محسوبية ولا هدايا ولا رشاوى
انقسمت ردود الفعل الرافضة للتقرير إلى نوعين؛ الأول كان عفويًا ويرى أن الاستطلاع فيه تجن كبير على سمعة الموظفين وسمعة الناس، وجاء افتراضهم هذا بسبب غياب تعريف مجرّد لمفهوم الرشوة الجنسية، واعتقادهم أنّ التقرير يتهم خُمس الفلسطينيين بتقديم خدمة الممارسة الجنسية مقابل حصولهم على خدمات، وهذا فيه تجن على أخلاقيات الناس. أمّا القسم الثاني فقد كان يعي مفهوم الرشوة الجنسية بشمولية، لكنهم كانوا ممن تزعجهم تقارير "أمان"، ورأوا في التقرير وفي ردّة الفعل عليه وسيلة للتشكيك في مصداقيته، ليتم لاحقًا سحب ذلك على كل التقارير التي ستصدرها وتمس أداءهم، وبعضهم كان يعتقد أنّ غايات سياسيّة وراء التقرير، رغم أنّ مؤسسة "أمان" حازت في بناء أسس النزاهة والشفافية ثقة عديد المختصين حول العالم وفق ما أعلم، ولو استفادت الحكومات المتعاقبة من تقاريرها لأصبحت هذه الحكومات نموذجًا في النزاهة والشفافية، لكن غالبيّها حاربت "أمان" وقاطعتها، وعمم بعضها على مؤسساته عدم التعاون معها وتزويدها بالمعلومات.
أظهر مؤشر الفساد الدولي أن 21% من الأشخاص المستطلعة آراؤهم تعرضوا أو سمعوا عن رشوات جنسية في فلسطين، في حين كانت النسبة في لبنان 23%، وفي الأردن 16%، وبيّن المؤشر أنه من الصعب أحيانًا الحصول على أدلة ملموسة، وغالبًا ما يكون هناك نقص في التبليغ فعليًا عن حالات الرشوة الجنسية، وقد يعود ذلك إلى أن المجتمعات المحلية الفلسطينية تنزع إلى إلقاء اللوم على الضحية، لأن الأمور الجنسية تعد من المواضيع المحظورة.
الرشوة الجنسية لا تقل خطورة عن الرشوة المالية في إضاعة فرص عمل لأشخاص أكثر كفاءة من أشخاص آخرين
مقياس الفساد العالمي الذي أصدرته منظمة الشفافية العالمية للمرة العاشرة على التوالي، مؤشر يتسم بأعلى درجات المهنية والمصداقية، ويتّبع أدق الأسس العلمية في استطلاع الرأي، وكان يدرك أنّ التعرّض لموضوع الرشوة الجنسية أمر ليس بالسهل، لذا ترك لفروع المنظمة في دول العالم أن تقرر إن كانت ترغب في إضافة هذا المؤشر أم لا، واختارت فلسطين أن يكون هذا المؤشر للمرّة الأولى جزءًا من المقياس، لأن الرشوة الجنسية لا تقل خطورة عن الرشوة المالية في إضاعة فرص عمل لأشخاص أكثر كفاءة من أشخاص آخرين.
غالبية ردود الفعل كانت رافضة ومستنكرة لهذه النتيجة كما أشرت، ويبدو أنني متعاطف إلى حدّ كبير مع هذه الأغلبية، بل أفوقهم وأجزم أن فلسطين خالية من أي رشاوى جنسية، ولم يحصل أي شخص في فلسطين على خدمة مقابل ميزة جنسية، ولم يسمع أي شخص بأنّ شخصًا ما حصل على منفعة مقابل رشوة جنسية.
أجزم أننا شعب لا يوجد بين ظهرانيه من يُمارس الرشاوى الجنسية، بل أجزم أننا شعب ليس فيه من يمارس الابتزاز الجنسي
لا اعتقد أنّ هناك مسؤولًا/ مسؤولةً، مديرًا/ مديرةً، في شركة أو مؤسسة في فلسطين اختار أن يكون مدير أو مديرة مكتبه أو سكرتيرته الأجمل بين المتنافسات أو الأوسم بين المتنافسين، بل أصرّ على أنّ الكفاءة هي أساس الاختيار، فنحن نرفض الاختيار تحت ضغط الرشوة الجنسية.
لا أعتقد بأن هناك مؤسسة فلسطينية واحدة عامة أو أهلية أو خاصة أعطت الفرصة في الوظيفة على أساس المظهر، بل أجزم أنّ الكفاءة كانت أساس الاختيار، ونرفض كلّ أشكال الرشوة الجنسية.
لا اعتقد بأن هناك مدرّسًا جامعيًا أو مدرّسة جامعية ميّز أو ميّزت في العلامات على أساس المظهر أو الجمال، بل دومًا المجتهد هو من يحصد العلامات، وهذا ما يُجمع عليه كل طلبة وطالبات الجامعات.
لا أعتقد أنّ طبيبًا فلسطينيًا واحدًا وافق على معالجة امرأة، ورفض أخذ أي كشفيّات منها مقابل رشوة جنسية، فلا أحد منّا سمع عن قضية من هذا القبيل.
لا أعتقد أنّ هناك شرطيًا واحدًا أوقف سيّدة خالفت أنظمة السير، وسامحها كونها "لطيفة"، ورشته هي بابتسامة وكلمة حلوة، بل خالفها كأي شخص يُخالَف، وأكبر دليل على ذلك، أنّ هناك تطابقًا بين نسبة سائقي السيارات من الجنسين، ونسبة المخالفات.
لا أعتقد أنّ هناك فضائية أو مؤسسة إعلامية أو شركة دعاية أو إعلان فاضلت ابتسامة امرأة جميلة أو شاب وسيم على شهادة أو كفاءة عندما قررت تعيين موظف أو موظفة جديدة، وما يحكمنا هو الكفاءة فقط، ونلمس ذلك بوضوح على الشاشات، وفي الميدان.
أجزم أننا شعب لا يوجد بين ظهرانيه من يُمارس الرشاوى الجنسية، بل أجزم أننا شعب ليس فيه من يمارس الابتزاز الجنسي، بل ولم يسمع واحد منّا بقصة من هذا القبيل، فأخلاقنا لا تسمح بذلك، وأكبر دليل على ذلك أنّ تقارير النيابة العامة والشرطة تعلن كل عام أنّ عدد قضايا الابتزاز الجنسي تساوي صفر، ولم نكن يومًا بحاجة إلى قانون جرائم إلكترونية لمجابهة الابتزاز الجنسي.
نحن مجتمع طاهر، لا فساد فيه بحمد الله، لا وساطة ولا محسوبية ولا هدايا ولا رشاوى، ونختلف عن بقية الشعوب الأخرى، حتى وإن وُجد بعض الفاسدين الذين يمدّون أيديهم على المال العامّ، ففيهم من الطهارة ما يكفي ليجنّبهم الاقتراب من فروج الناس، فهم فادسون بشرف وأخلاق، ولن نسمع عنهم يومًا أنهم تلقوا رشوة جنسية تفقدهم طهارتهم.
إنّ هذا كله يدفعني للقول بأنّ "مؤسسة أمان" ومن خلفها منظمة الشفافية الدولية قد كذبتا بما نشر حول الرشاوى الجنسية، فنحن لسنا لبنان لتكون النسبة لدينا 23%، ولسنا الأردن لتكون النسبة 13%، ولسنا باقي الدول التي كانت نسبة حصول الرشاوى الجنسية أو السماع بها أضعاف ذلك. فكيف يتم التجني علينا ليُقال إن 21% من الناس سمعت بفساد الرشوة الجنسية؟
الحملة المضادة لمؤسسة أمان" وتقرير المنظمة الدولية كانت مفيدة لمواجهة هذا النوع من الرشاوى، فهي فتحت باب النقاش من أوسع أبوابه، فالخدمة هي حق لكل مواطن بعيدًا عن أي نوع من الرشوة، وعلينا رفض التمييز بين الناس على أساس حسن المظهر أو بدافع الرشوة الجنسية، فهي أعمال فساد وتمييز، وفيها يحصل أناس على خدمات ليست من حقّهم.
اقرأ/ي أيضًا:
لا تنتظر أن يطرقوا جدار الخزان.. افتحه!