من العنوان حتى صفحته الأخيرة، يقدم روعي شارون في كتابه "لأنتقم: قصة الإرهاب اليهودي"، رسالته الخفية للقارئ، على نحو تتراوح فيه بين الشكل المباشر للدعاية السياسية التقليدية البدائية، التي تُستخدم في حقن الأتباع بقناعاتٍ دون تبريرها عقلاً، وبين النمط البارع من الدعاية الذي يُسخّر المعطيات والتفاصيل والسياقات لإقناع المتلقي.

اختيار الانتقام مطلعًا للعنوان من الأمور التي حالف فيها التوفيق الكاتب، فمكون الانتقام أمر جوهري في الإرهاب اليهودي الذي يتمحور حوله الكتاب، فالانتقام ظاهرة تستند حصرًا إلى أساطير دينية في بعض تجلياتها، وفي الجزء الثاني خليط من التطرف القومي والديني

ربما وجد المؤلف روعي شارون نفسه يمارس النمطين بلا وعي، فهو أصلاً قادمٌ من الحاضنة الأيدولوجية والخزان البشري لظاهرة الإرهاب اليهودي التي يتحدث عنها في كتابه. ويخاطب شارون بحديثه التيار المركزي في "إسرائيل"، وهو التيار الذي يرى في الجيش صاحب الحق الحصري في احتكار استخدام العنف في مواجهة الفلسطينيين. ورغم هذا كله وأكثر من الملاحظات، إلا أن الكتاب في غاية الأهمية، فقد قدم صورة حول ظاهرة الإرهاب اليهودي أقوى من الكتاب اليمينيين الذين سبقوه في هذا الإطار.

فرضية أن المؤلف يخفي ويبرز الحقائق تبعًا لهواه، ربما تجد ما يبررها من عنوان الكتاب الذي اقتبسه من سفر القضاة العهد القديم، التي تروي أسطورة شمشون مع الفلسطينيين. اختار روعي شارون كلمة "لأنتقم"، وحذف تتمة الجملة "من الفلسطينيين". كما وردت في النص محل الاقتباس:"«يَا سَيِّدِي الرَّبُّ، اذْكُرْنِي وَقَوِّنِي هَذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ لأَنْتَقِمَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ عَنْ قَلْعِ عَيْنَيَّ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ». 29 وَقَبَضَ شَمْشُونُ عَلَى الْعَمُودَيْنِ الْمُتَوَسِّطَيْنِ اللَّذَيْنِ يَرْتَكِزُ عَلَيْهِمَا الْمَعْبَدُ وَضَغَطَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِيَمِينِهِ وَعَلَى الآخَرِ بِيَسَارِهِ 30 وَهُوَ يَقُولُ: «لأَمُتْ مَعَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ». ثُمَّ دَفَعَهُمَا بِكُلِّ قُوَّتِهِ فَانْهَارَ الْمَعْبَدُ عَلَى الأَقْطَابِ وَعَلَى الشَّعْبِ الَّذِي فِيهِ. فَكَانَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ شَمْشُونُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ طَوَالَ حَيَاتِهِ".

مع ذلك فإن اختيار الانتقام مطلعًا للعنوان من الأمور التي حالف فيها التوفيق الكاتب، فمكون الانتقام أمر جوهري في الإرهاب اليهودي الذي يتمحور حوله الكتاب، فالانتقام ظاهرة تستند حصرًا إلى أساطير دينية في بعض تجلياتها، وفي الجزء الثاني خليط من التطرف القومي والديني.

ويعالج كتاب "لأنتقم: قصة الإرهاب اليهودي" في 250 صفحة، ظاهرة الإرهاب اليهودي الموجه ضد الفلسطينيين بوصفهم مسلمين ومسيحيين وعربًا، منذ مطلع عقد التسعينات، وبذلك يخرج من دائرة الضوء الحلقة الأهم، في مسلسل الإرهاب، وهي التنظيم اليهودي السري الإرهابي، الذي نفذ عمليات دموية بحق الفلسطينيين وكان على وشك نسف المسجد الأقصى، وتحول قادته مع مرور الزمن من الهامش إلى نخبة "إسرائيل".

ويمارس عناصر التنظيم الإرهابي اليهودي الآن، العمل العام، وبعضهم وصل إلى مناصب رفيعة. مثلاً حاغاي سيغال، يشغل الآن منصب رئيس تحرير صحيفة "مكور ريشون". كذلك زئيف زامبش، شارك في تأسيس الموقع الإلكتروني للقناة السابعة، وهي الذراع الإعلامي للتنظيمات الإرهابية اليهودية، ويرأس حاليـًا مؤسسة "آمنا" الاستيطانية، وهو أيضًا أحد قادة مجلس المستوطنات في الضفة الغربية، وضيف دائم في مكتب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتياهو.

حقيقة أن قادة "التنظيم اليهودي"، وعناصر وقيادة حركة "كاخ" الإرهابية هم من يوفرون الدعم الأيدولوجي والإسناد اللوجستي لظاهرة الإرهاب اليهودي، لا تغيب عن صحفي مخضرم مثل روعي شارون

حقيقة أن قادة "التنظيم اليهودي"، وعناصر وقيادة حركة "كاخ" الإرهابية -التي أسسها الحاخام مائير كاهانا، ونفذت عمليات إرهابية أدت لمقتل فلسطينيين، من بينها مجزرة جامعة الخليل في ثمانينات القرن الماضي- هم من يوفرون الدعم الأيدولوجي والإسناد اللوجستي لظاهرة الإرهاب اليهودي، لا تغيب عن صحفي مخضرم مثل روعي شارون. مثلاً، منظمة "لاهافا" أسسها بن تسيون جوفشطاين، أحد قيادات حركة "كاخ" الإرهابية، قبل نحو عقدين من الزمن. وتنفذ المنظمة اعتداءات تستهدف أبناء القدس والفلسطينيين داخل الخط الأخضر بحجة منعهم من الاقتراب من اليهود؛ لتفادي "إغواء" شابات يهوديات والزواج منهن. كما يُسيّر أفراد المنظمة دوريات في غرب القدس بانتظام، حيث تستفرد بالعمال العائدين من أماكن عملهم في ساعات متأخرة، ويتم التنكيل بهم. وتخضع منظمة "لاهافا" عناصرها -وهم في غالبيتهم من تيار الصهيونية الدينية الاستيطاني-لتدريبات قتال الشوارع، من أجل تأهيلهم على تنفيذ الاعتداءات التي تشمل أيضًا الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.

مع ذلك، فإن الكتاب لم يكن بوسعه تجاهل الحديث عن القيادي في حركة "كاخ" نوعم فريدمان، من مستوطنة "كريات أربع" المقامة وسط الخليل، الذي أعد دراسة مفصلة حول تكتيكات مقاومة الاستجواب، في حال تم اعتقالهم، معتمدًا على خلاصة خبرات عناصر حركته وقادتها. وتعتبر دراسات فريدمان مدخلاً إجباريًا في مسار تأهيل الإرهابيين اليهود على مختلف تنظيماتهم.

في أحد التقارير التلفزيونية الإسرائيلية عن تنظيم "جباية الثمن" الإرهابي، قبل نحو عقد، يظهر المستوطن ايتمار بن غفير، الذي يشغل حاليًا وزير الأمن القومي، وهو يشرح أحد كُتيبات أستاذه فريدمان، فهو كان أحد مساعديه عندما انضم للحركة. مع ذلك فإن الكتاب يفرد فقط صفحتين عن ايتمار بن غفير، فهو لا يستحق أكثر من ذلك، لأنه، وفق رأي المؤلف روعي شارون، "مجرد ظاهرة صوتية".

يستعرض شارون في كتابه، قصة الإرهاب اليهودي بالاعتماد على منهجية تقوم أولاً على فهم الدوافع، وشخصياتها الرئيسية، وأساليب العمل، والبيئة الحاضنة، والجهود المضادة لهذه الظاهرة التي تتسم بالقصور، حيث تتعامل معهم جهات إنفاذ القانون الإسرائيلية بقفازات حريرية، فهم مجرد أبناء ضالين. ويبين الكتاب أن الإرهابيين اليهود لا يخضعون للتعقب أو لتحقيقات جدية تستخدم نفس الأساليب التي تُستخدم مع الفلسطينيين.

يبين الكتاب أن الإرهابيين اليهود لا يخضعون للتعقب أو لتحقيقات جدية تستخدم نفس الأساليب التي تُستخدم مع الفلسطينيين

وتتناول فصول الكتاب، من بين أمور أخرى، مذبحة الحرم الإبراهيمي، وخلية "بات عين" الإرهابية التي خططت لنسف مدرسة في القدس،  وعمليات تنظيم "جباية الثمن" الإرهابية، وعُرس الكراهية الذي كشفت تفاصيله القناة 10 عام 2017، عندما بثّت القناة توثيقًا جديدًا يُظهر أحد المرجعيّات الدينية لتنظيم "جباية الثمن" الحاخام دانيال سابسكي، وهو يبارك عناصر الخلية التي أحرقت عائلة دوابشة، حيث رقص الإرهابيون في العرس احتفاء بقتل الرضيع علي دوابشة حرقًا، وكان بين الحضور حينها ايتمار بن غفير.

والحاخام دانيال ستابسكي يلقي محاضرات أسبوعية، يحضرها العشرات من عناصر تنظيم "جباية الثمن" المتطرّف في كنيس داخل الخط الأخضر. ويتطرق الكتاب الذي نُشر في 30 نيسان/ابريل 2023 لتفاصيل موسعة حول جرائم إرهابية، مثل مذبحة الحرم الإبراهيمي، وجريمة خطف القاصر محمد أبو خضير وإحراقه حيًا، والجريمة الإرهابية التي أودت بحياة الفلسطينية عائشة الرابي.

وبالاعتماد على رحلة رصد طويلة، امتدت على مدار أكثر عقدين في ملاحقة الظاهرة في البيئة المحيطة، وعبر معلومات استقاها من قادة جهاز "الشاباك"، ومقابلات أجراها مع كبار حاخامات الإرهاب وقادة المنظمات الإرهابية الذين أدينوا بتنفيذ جرائم القتل بحق الفلسطينيين ومقدساتهم الإسلامية والمسيحية، توصل روعي شارون الى ثلاثة دوافع للإرهاب اليهودي:

الدافع الأول: إشباع غريزة الانتقام من الفلسطينيين. ولهذا السبب اختار روعي شارون لكتابه اسم "لأنتقم".

الدافع الأول للإرهاب اليهودي: إشباع غريزة الانتقام من الفلسطينيين. ولهذا السبب اختار روعي شارون لكتابه اسم "لأنتقم"

الدافع الثاني: إحباط عملية سياسية. مثلاً جريمة قتل أربعة فلسطينيين في شفا عمرو التي نفذها الجندي نتان زادة، كانت بهدف إحباط مخطط الانسحاب من قطاع غزة. وكذلك جريمة قتل أربعة عمال فلسطينيين التي نفذها آشر فيزجان، من سكان مستوطنة "شيلوه"، كانت بهدف تحقيق الغاية ذاتها.

الدافع الثالث: قتل الفلسطينيين هو تعجيل النهاية لتعجيل الخلاص، بإنتاج فوضى عارمة تسفر عن سقوط قتلى. ومنظّر هذا الفكر هو مآئير إتنغر حفيد الحاخام الأمريكي كاهنا، مؤسس حركة "كاخ" الإرهابية، وقائد تنظيم "التمرد" الإرهابي، الذي نفذ عناصره عمليات إرهابية أبرزها جريمة  حرق عائلة دوابشة، وحرق مساجد وكنائس. احد وثائق التنظيم، بحسب روعي شارون، توضح ضرورة إشعال النار في كل براميل المتفجرات في المجتمع الإسرائيلي وأيضًا في المساجد  والكنائس  وكل الأماكن   غير التابعة لليهود،  وإشعال عود  الثقاب من أجل تفجير  منطقة الشرق الأوسط برمتها، تمهيدًا لقيام الدولة اليهودية التي تطبق الشرائع اليهودية مكان "دولة إسرائيل العلمانية".

تقدم وثائق تنظيم "تمرد" شرحًا مفصلاً لكيفية إحراق الفلسطينيين  في منازلهم: "ببساطة نحطّم بابًا زجاجيًا أو نافذة، ثم نسكب البنزين داخل المنزل، ونشعل الزجاجة الحارقة ونقذفها، ونقوم بكتابة شعار جباية الثمن، حتى لا نعرقل عملية الهرب". هذا النص مقتبس حرفيًا من كتاب "ملكوت الشر"، لمؤلفه موشيه أورباخ، الذي تم اعتقاله لضلوعه في إحراق "كنيسة السمك والخبز" الأثرية الواقعة في قرية الطابغة الفلسطينية المُهجرة على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبريا. في مقطع آخر من وثائق "ملكوت الشر" يقول موشيه أورباخ: "أحيانًا يتملّكنا الملل من إلحاق الأذى بالممتلكات، نريد توجيه ضربة توضح للملعونين، أننا نريد ببساطة إضرام النار في منزل على من فيه. ما الفرق؟ إنّ إضرام النار في مسجد أو سيارة لا يقود لمواجهة مباشرة مع العرب".

في نهاية كتاب "لأنتقم"، سيكون على رأس ملاحظاتك حوله، الادعاء الوارد على لسان دفير كاريف، الضابط الرفيع السابق في جهاز "الشاباك"، في تقديمه للكتاب، إذ يقول: "معظم المستوطنين في الضفة الغربية البالغ عددهم أكثر من نصف مليون نسمة يعارضون الإرهاب اليهودي"، متجاهلاً حقيقة أن بعض العمليات الإرهابية شارك فيها المئات، مثل إحراق قرية حوارة، كما أن أي جهة تمثل المستوطنين، مثل مجلس قيادة المستوطنين في الضفة الغربية، لم يصدروا في أي يوم بيانًا يتبنى موقفًا ضد جرائم الإرهاب اليهودي.