منذ بدء المواجهات الأخيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهناك حديث وتساؤلات قائمة مشروعة وغير مشروعة أكثرها ملفت للانتباه، حول ما يسود في الأوساط الصحفية عن تبني الفلسطينيين الرواية الإسرائيلية في العمليات التي ينفذها الشبان أو العمليات الملفقة. ما جعل هناك تقاطعًا مع الخطاب الإسرائيلي في تعامله مع مثل هذه الحوادث، إذ نلاحظ أن هناك محاولات دائمة لتحويل الصراع مع الاحتلال إلى صراع أخلاقي إنساني ضمن معايير معروفة ومحددة مسبقًا.
هناك محاولات دائمة لتحويل الصراع مع الاحتلال إلى صراع أخلاقي إنساني
في أي عملية إعدام يرتكبها جنود الاحتلال بحق شاب فلسطيني، تظهر "مبررات" قتله في وسائل الإعلام الإسرائيلية بتنفيذه أو محاولته تنفيذ عملية، وهذا مفهوم تقليدي بالنسبة لتعامل المُستعمِر إذ يتعمد المحافظة على صورته الإنسانية دائمًا، بما لا يتعارض مع مبرراته وتعريفه لنفسه كممارسة حضارية وتحضيرية. غير أن الملفت هنا هو ظهور خطابات جديدة فلسطينيًا حريصة على شروط الأنسنة والأخلاق العالمية هذه التي يروج لها.
تظهر، بالمقابل، ردة فعل الشارع الفلسطيني فور الإعلان عن تنفيذ عملية في رواية منقسمة، أساس الانقسام ومصدره هنا هو إما في تبني الرواية الإسرائيلية، ولو بشكل غير مباشر، من خلال الاحتفاء بعمليات الشهداء مثلًا قبل التأكد من وجود عمليات أصلًا، أو في محاولة مجموعات أخرى تقويض مقولات الرواية الإسرائيلية، خاصة إذا لم يكن هناك قتلى بعد العملية، أو"محاولة القيام بعملية".
والادعاء هنا أن هذا النقاش وإن بدا ضروريًا، هو خضوع بكلتي روايتيه للخطاب الإسرائيلي في محاولته الدائمة لقيادة معركة أخلاق خاصة، قد ينشغل فيها الإعلام الفلسطيني أكثر من المعركة الحقيقية في الميدان، فماذا يعني أن نبحث عن أداة الشهيد التي قتل بسببها، إلا من أجل محاولة الإنكار والدفاع وخوض معركة الأخلاق المفترضة. إضافة إلى انحسار الرواية الإعلامية الفلسطينية في ثنائية "مقاوم/ ضحية". التي تحولت فجأة إلى ثنائية تصديق/ تكذيب الرواية الإسرائيلية. إذ أن الاحتفاء بالبطل يستدعي تصديق رواية العملية، أما خطاب الضحية فيستدعي نفيها. وكأن إسرائيل هبطت علينا من السماء فجأة، ولم نكن ضحاياها منذ عشرات السنين، مقاومين ومتفرجين ونائمين ومؤيدين؟
ينشغل الإعلام الفلسطيني في الرد على الرواية الإسرائيلية وليس في صنع رواية فلسطينية مضادة
انشغال الإعلام الفلسطيني في البحث عن أبسط تفاصيل أي حادثة، صار انشغالًا في الرد على الرواية الإسرائيلية وليس انشغالًا بصنع رواية فلسطينية خاصة لشعب ضحية للاستعمار، رواية لا تربكها صورة طفل فلسطيني بسكين، ولا تنحصر في نفي أو نقد الرواية الإسرائيلية، رواية لا يقل من شأنها إثبات أن الشهيد كان مسلحًا، أو أنه فعلًا حاول أن يقوم بعملية. وقد تكون حادثة الطفلين مناصرة هي من أكثر المواقف التي مثلت هذا الإرباك، إذ أن الفيديو الذي انتشر لأحمد مناصرة ملقى بعد إصابته وسط شتائم ودعوات الجنود لقتله استخدم بما يثير عواطف كل من شاهده، خاصة مع ترجمته لعدة لغات أوروبية، قبل أن يسارع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى نشر أشرطة تظهر الطفلان وهما يطاردان أحد المستوطنين، وفيديو آخر له وهو في المشفى وسط عناية الأطباء الإسرائيليين. إن هذه الظروف الخاصة تجدد مطالبتنا الدائمة برواية فلسطينية خاصة، رواية خارجة عن توظيف دمائنا في ترويج لخطابات البطولة أو الضحية، خارجة عن سوق البكائين الأوروبيين، وعن سوق دموعهم.
اقرأ/ي أيضًا: