"وصل الفلسطينيون إلى تشيلي، ولم يسألوا أحدًا شيئًا، على عكس المُهاجرين الأوروبيين الذين حصلوا على كلّ الامتيازات.. بدأوا العمل، ليصنعوا مستقبلهم من اللاشيء، بعد ذلك جلبوا عائلاتهم وأقاربهم، وجيرانهم"، بهذه الكلمات يلخّص الأكاديمي الإسباني إيوجينيو تشوهان، بدايات الهجرة الفلسطينية إلى تشيلي، مع نهايات القرن الـ19، وبدايات القرن العشرين، مُشكّلين الآن أكبر تجمّع فلسطيني خارج الوطن العربي، بعدد يقترب من 300 ألف شخص.
الجالية الفلسطينية في تشيلي من أكبر الجاليات خارج العالم العربي، حتى إن عددها هناك فاق عدد الفلسطينيين في بعض الدول العربية!
في أواخر القرن التاسع عشر، وصل شبّان فلسطينيون العاصمة التشيلية "سانتياجو"، بعد أسابيع من الجوع والتعب أثناء عبور البحار والمحيطات، وسلسلة جبال الأنديز. وهم اليوم يكوّنون -بمن جاؤوا بعدهم- ثروة كبيرة، بحسب ما تناولته صحيفة (الدياريو eldiario.es) واسعة الانتشار في اسبانيا، في تقرير موسّع لها عن المهاجرين الفلسطينيين في تشيلي.
الغالبية العظمى من الفلسطينيين الذين أتوا إلى القارة اللاتينيّة، جاؤوها أملًا بمستقبل يحمل فرصًا جديدة، واستطاعوا رسم مستقبل لا يقلُّ بريقه عن ذلك الذي كان يمكن لهم أن يرسموه في بلادهم، لولا أن حاصرت الجدران الإسمنتية أحلامهم و حرياتهم.
اقرأ/ي أيضًا: المطلوبون الـ18.. أبقار في شرفة الوطن
التاجر التشيلي (الفلسطيني الأصل) كارلوس أبو سلامة يقول إنّهم جاؤوا إلى تشيلي بحثًا عن فرص جديدة، لافتًا إلى أنّ أجداده قدموا إلى تشيلي هربًا من مطاردة الأتراك العثمانيين لهم، في بدايات القرن العشرين.
أبناء بيت لحم، وبيت جالا وبيت ساحور، يشكّلون غالبية الفلسطينيين هُناك!
الغالبيّة العظمى من الجالية الفلسطينية في تشيلي، تنتمي إلى مدينة بيت لحم في الضفة الغربيّة، وبلداتها مثل بيت جالا وبيت ساحور، التي تسكنها أغلبيّة مسيحية حافظت على إرثها وتقاليدها، ونقلتها إلى هناك، حيث سواحل المحيط الهادئ، في عمق أمريكا اللاتينية.
ويقول عمدة بلدة ريكوليتا وهو تشيلي من أصل عربيّ يدعى دانيال جادو، إنّ موجات الهجرة ازدادت بشكل ملحوظ خاصة بعد حرب عام 67، وبعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى في سنوات الثمانينات والتسعينيات.
رئيس بلدية بيت جالا الواقعة شمال غرب بيت لحم، زار تشيلي في عام 2013، ووجد أنّ عدد أبناء بلدته الذين يقيمون في تشيلي أكبر بكثير من المقيمين في بيت جالا نفسها.
الاندماج في الحياة التشيلية لم يُفقد الفلسطينيين هويتهم وانتماءهم لأرضهم، فورق العنب (الدوالي)، وكذلك الحمص والباذنجان المحشي، لا تزال من الأطباق المفضّلة على موائدهم، حيث تختلط رائحتها بصوت الموسيقى العربية.
اقرأ/ي أيضًا: تجارة الماس في إسرائيل.. أرقام مرعبة
"باتريسيا التيت" التي تنتمي إلى الجيل الثاني من المهاجرين الفلسطينيين في تشيلي، تملك مطعمًا للأكلات الفلسطينية في أكثر الأحياء اكتظاظًا وحيوية في العاصمة التشيلية، تقول إنّ "روحها تشيلية، لكنّ قلبها فلسطيني". وعلى الرغم من أنّها لم تزر أرض آبائها وأجدادها إلّا مؤخّرًا، إلّا أنّها شعرت بـ"مغناطيس غريب نحو المكان، بمجرّد أن وطأته أقدامها، ورأت وجوه الناس الطيبين".
تتحدّث باتريسيا وهي تلف أوراق العنب لتصنع طبخة "الدوالي"، مستذكرة أيّام وجودها في الضفة الغربية بالقول إنّ الكلام حينها "لم يكن ضروريًا.. لم نكن في حاجة إلى الحديث، لأنّ لغة الجسد كانت تترجم كل شيء. كان ثمة تطابق بين لغة جسدي، ولغة آبائي".
الاندماج الكبير للجالية الفلسطينية هُناك، كان من نتائجه السيئة فقدان اللغة العربيّة الأم، فمن بين الجالية الكبيرة، تحدث ألفيّ شخص فقط، اللغة العربيّة. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا لم يمنع الشباب من الانجذاب إلى الموسيقى العربية، الأمر الذي جعلهم يكوّنون فرقًا موسيقية وأوركسترا تراثية، تعزف موسيقى الأرض الأم، والتواصل مع كلّ ما يحمل ملامح بلادهم، التي تقع في الجانب الآخر من الكرة الأرضية.
الواصلون آنذاك، إلى تشيلي، قادمين من الشرق الأوسط، كانت لديهم معرفة أفضل عن العالم، حتى أنها أفضل من سكان البلاد نفسها، المحاصرين خلف جبال الأنديز الضخمة من الشرق، والمحيط الشاسع المترامي الأطراف، غربًا، وفق ما تقول الصحيفة.
تشيلي.. لماذ؟!
أمّا عن سبب اختيار الفلسطينيين، تشيلي، وجهة لهم، يقول الأكاديمي "إيوجينيو تشوهان" لوكالة الأخبار الاسبانية EFE: إنّ دول أمريكا اللاتينية الشابّة كانت تحتاج الأيدي العاملة لتدعيم اقتصادها، وخاصة تشيلي، رغم أنّ الحكومات التي كانت تحكم البلاد حينها، كانت تفضّل المهاجرين الأوروبيين مثل الألمان والنمساويين، الذين قدَّمت لهم كل شيء؛ الأرض والحقوق. لكنّ الفلسطينيين وصلوا هُناك، ولم يسألوا أحدًا شيئًا، وعملوا من لا شيء.
مضيفًا أنّ هجرتهم كانت "متسلسلة"، فالواصلون حديثًا يحتاجون إلى أناس يساعدونهم في أعمالهم، وبذلك بدأوا يجلبون عائلاتهم، وجيرانهم حتى، وأقاربهم. وفي ذلك الوقت كان اقتصاد تشيلي غير معتمد بشكل حصري على الإنتاج الزراعي، بل كان آخذًا في التحوّل إلى نظام إنتاجي رأسمالي، ما جعل الأفضلية للمهاجرين الفلسطينيين الذين استغلوا التوسع في عالم الأعمال، واتجهوا نحو عالم النسيج.
اقرأ/ي أيضًا: نساء غزة يطرّزن ذاكراتهن
لوبي سياسي
ونشرت النسخة الإسبانية لموقع (BBC) المهتمة بإسبانيا وأمريكا اللاتينية، تقريرًا عام 2004، أشارت فيه إلى أنّ الجالية الفلسطينية في تشيلي، هي الأكبر من تلك الموجودة في بعض الدول العربية.
وتحدّث الموقع عن "اللوبي الفلسطيني" في السياسة وتجارة القطن والأقمشة، موضحًا أنّ إحدى الصحف التشيلية نشرت رسمًا كاريكاتوريًا يسيء للضحايا الفلسطينيين من القصف الإسرائيلي على غزة، فقام تسعة من أصحاب أكبر الشركات الفلسطينية في تشيلي، بنشر رسالة رسمية للرأي العام تحذر من أن الـ300 ألف فلسطيني الذين يعيشون في تشيلي لم يفهموا وجه الفكاهة في الرسم الذي يسخر من ضحايا المذبحة هناك.
ماركات تجاريّة بأسماء فلسطينية!
ويشتغل المهاجرون الفلسطينيون في تشيلي بالتجارة، وبخاصة تجارة القطن والأقمشة، حتى تحوّلت أسماء عائلات فلسطينية إلى ماركات أقمشة مهمة وثمينة جدًا. ويقول عبد ربه أحد كبار تجار الأقمشة هناك: "على الرغم من استقبالهم الجيّد لنا هنا، إلا أن النخبة لم ترحِّب بوجودنا، لذا كان علينا أن نعمل لننتزع منهم الاحترام والقبول... كان يجب علينا أن نعمل لنكسب المكانة والاسم".
بالستينو الرياضي
وحين الحديث عن الجالية الفلسطيني في تشيلي، لا يمكن بالطبع تجاهل نادي "بالستينو" الرياضي، الذي أسسه أبناء الجالية الفلسطينية عام 1920، وبات اليوم رقمًا صعبًا في الدوري التشيلي لكرة القدم، ويحتل الترتيب السادس.
في منتصف القرن الماضي تحوّل النادي إلى "احترافي"، وفي عام 1988 تم إنشاء ستاد خاص بالنادي في منطقة لاسيستيرنا وسط العاصمة التشيلية، يتسع لـ12 ألف متفرّج. العديد من لاعبي النادي، مثّلوا المنتخب الفلسطيني لكرة القدم، في كثير من المناسبات، وأبرزهم: روبيرتو بشارة، روبيرتو كاتلون، وفرانشيسكو علام.
عام 2013، قرر النادي وضع خريطة فلسطين التاريخية على قمصان الفريق، ما أثار سخط وغضب الجاليات اليهودية حول العالم، وقام النادي بوضع خريطة فلسطين مكان الرقم واحد على قمصان اللاعبين، التي تضم ألوان العلم الفلسطينيّ.
المنظمات الإسرائيلية ثارت ثائرتها في حينه، وتوجهت بشكاوى للاتحاد التشيلي، الذي استجاب لها، وقرر منع الفريق من ارتداء القمصان، فضلًا عن فرض غرامة مالية على النادي.
اقرأ/ي أيضًا:
إنه زمن الاشتباك المستمر ومكانه