05-أكتوبر-2016

getty

شاهدته أول مرة في صلاة ظهر أحد أيام رمضان بمسجد عمر بن الخطاب في بيت لحم، كانت مشيته خفيفة وهادئة تثير الانتباه، لحية بيضاء وشعر رأس كذلك. كان على عتبة الخمسينات من العمر، طويل ونحيل بوجهه الطيب البشوش.

لم أكن أعلم أن انتفاضة الأقصى لم تمر عليه وعلى عائلته مرور الكرام، كما لم أكن أعلم أن ثمّة قصّة ما، يخفيهها هذا الوجه، إلى أن جمعتنا الصدفة مرة أخرى، في مكان ما.

سامي محمد يعقوب عابدة من سكان البلدة القديمة في بيت لحم، خطف رصاص الاحتلال أمّه وشقيقه في لحظة واحدة، وخطف فيها أشياء كثيرة من حياته.

قرابة الساعة العاشرة صباحًا في الثاني من نيسان/ ابريل عام 2002، سامي وأبناؤه الثلاثة وأكبرهم محمد (10 أعوام) كانوا في الطابق العلوي من منزلهم في حي الفواغرة المطل على كنيسة المهد ببيت لحم.. كانت الدبابات تملأ أزقّة البلدة القديمة، وكانت كنيسة المهد تحت الحصار، آنذاك.

في الطابق السفلي كانت والدة سامي الحاجة سمية موسى عابدة، وشقيقه خالد، يجلسان في انتظار أن تجهز القهوة لاحتسائها، عندما بدأ الجنود بالطرق المجنون على الباب الكبير للمنزل القديم، نزل سامي وأبناؤه إلى الطابق السفلي عبر درج ضيّق وقديم، في محاولة لمنع الجنود من خلع الباب والاعتداء على والدته، سمعوا الجنود يصرخون لطلب قنبلة مغناطيسية لتفجير الباب فبدأوا ينادون من الداخل: "إحنا بنفتح الباب.. استنوا شوي".

لم يكملوا عبارتهم حتى كان الباب قد انفجر، ولكنه لم ينفتح بسبب قوته وضخامته، أمسك سامي بيدي والدته وشقيقه في انتظار دخول الجنود، إلا أن الرصاص كان إليهم أسرع، فانهال عليهم من بنادق الجنود كالمطر، مخترقًا جسد والدته وشقيقه.

مرت ثلاثة أيام على عابدة ووالدته وشقيقه وأبناؤه الثلاثة وزوجته في المنزل، وكلما مرّ عليهم الجنود ألقوا قنابلهم الغازية في المنزل في محاولة لقتل من بقي حيًّا داخله، إلى أن وصل فريق من الصحفيين بالصدفة إلى البيت، فأخذوا يعيدوا الدم لعروق سامي التي تجمدت وهي تمسك بيدي والدته وشقيقه، واستغرق التنسيق لإخراج الجثمانين إثني عشرة ساعة، كما تم تأمين خروج أطفاله الذين خضعوا لاحقًا، لعلاج نفسي لعلّه ينسيهم ما شاهدوه بأم أعينهم، وكانوا شهودًا من خلاله على وحشية الجنود.

في يوم ما، احتار الأساتذة في المدرسة، من تصرفات الطفل محمد، وبعد أن تابعوا خطواته، عثروا عليه وهو يصنع سكينًا ويشحذها بحجر قرب سور المدرسة. قال لهم حينها: إنّه كان ينوي أن يثأر لجدّته وعمّه الذين قتلوا أمام عينينه.

صعق عابدة بعد أن رأى وجهه في المرآة أول مرة بعد الحادثة، فلحيته وشعره الأسود انقلب للون الأبيض في ليلة وضحاها، ليفقد لون شعره ووجهه وجلده كما فقد والدته وشقيقه الذين أديّا مناسك الحج معًا واستشهدا معًا.

صدمة عابدة في فقد أغلى الناس إلى قلبه، جعلته يعاني الحرمان من النوم طيلة الـ 16 عشر عامًا هي عمر انتفاضة الأقصى، وكتبت عليه حصّة إجبارية من الأدوية والمهدئات لسنوات قادمة.

اقرأ/ي أيضًا: 

هكذا أتذكر الأستاذ نزيه

يوميات لاجئ.. تبًا للخيال

السيرة القسرية للمدينة الفلسطينية