لا يفارق الهاتف النقال يدي الشقيقتين حلا وجنى، النازحتين مع أسرتيهما إلى مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تحاولان بصعوبة بالغة إجراء مكالمة هاتفية مع عائلتهما الكبيرة في جباليا البلد شمال القطاع، لكن، غالبًا ما تفشل هذه المحاولات نتيجة عبث جيش الاحتلال بشبكة الاتصالات وتدميرها وإخراجها عن الخدمة في جباليا، ومخيم جباليا، وكثير من مناطق شمال القطاع.
في كل مرة نصل إليهم نستمع خلال المكالمة لأصوات مرعبة من الانفجارات وأصوات الرصاص
وفي 6 تشرين الأول/أكتوبر الحالي شرع جيش الاحتلال بعدوان بري مدعوم من الجو على شمال القطاع، كانت بدايته بحصار خانق وهجوم دام على مخيم جباليا بشكل أساسي، الأكبر من حيث الكثافة السكانية بين مخيمات القطاع الثمانية، ثم توسع العدوان ليشمل بلدات ومناطق واسعة من محافظة شمال القطاع.
تقول حلا حسين (14 عامًا)، إن عائلة جدها (والد أمها) تعرضت لمخاطر كثيرة في بلدة جباليا الملاصقة للمخيم، وحصار خانق، و"في كل مرة نصل إليهم نستمع خلال المكالمة لأصوات مرعبة من الانفجارات وأصوات الرصاص".
وإلى جانب شقيقتها تجلس جنى (7 أعوام) وتحتضن بين ذراعيها فستانًا تقول إن جدتها أرسلته إليها هدية قبل بضعة شهور مع أسرة قررت النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، وتضيف هذه الطفلة: "بدي أرجع عندهم على جباليا (..) أنا أتعبت من حياة الخيمة".
أيام مرعبة
وتقول والدتهما هنادي، لـ "الترا فلسطين"، إن طفلتيها على هذا الحال منذ الهجوم الإسرائيلي الكبير على مخيم جباليا والمناطق المحيطة به، و"تشعران بقلق شديد على أهلنا وأحبابنا هناك، الذين يواجهون الموت قتلًا وجوعًا، بسبب المجازر وعدم توفر الطعام".
تُقلّب حلا وجنى، الصور العائلية على الهاتف، وتسترجعان ذكرياتهما ما قبل الحرب. وتقول والدتهما إن ما يتعرض له شمال القطاع أثَّر كثيرًا على ابنتيها، حتى إنها تستمع إلى الصغرى، و"هي تصلي وتدعو الله أن يحفظ جديها وأخوالها والأقارب والأهل هناك".
وبعد أيام من الجزع الشديد هدأت هنادي وابنتاها قليلًا عندما تأكدوا من تمكن العائلة (16 فردًا) من النزوح من أطراف جباليا ووصولهم إلى حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، وتقول: "كانت الطريق مرعبة ولقد نجوا من موت محقق في كل خطوة وقذائف المدفعية تتساقط من حولهم والطيران يحلق من فوق رؤوسهم".
وتضيف: "عندما وصلوا إلى حي الشيخ رضوان تفقدوا بعضهم بعضًا بالأحضان، ولم يكونوا واثقين أنهم جميعًا وصلوا سالمين، وعلى قيد الحياة، فالرايات البيضاء ليست لها حصانة، وقد كانوا شهودًا قبل يوم من نزوحهم على إعدام ميداني لفتاة من الجيران حاولت مغادرة منزلها حاملة راية بيضاء".
الموت قصفًا أو جوعًا
ومنذ نزوحها مع أسرتها (7 أفراد)، في الشهر الثاني للحرب، من جباليا نحو مدينة رفح في أقصى جنوب القطاع عبر "حاجز نتساريم" العسكري الإسرائيلي، الذي يفصل الغزيين بين شمال وجنوب، لم تشعر السيدة هنادي بالخوف الذي تملكها منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية الحالية ضد جباليا وشمال القطاع.
وتعاني هنادي من صداع دائم منذ عدة أيام تُرجعه إلى القلق الذي يتملكها خشية على عائلتها، وكثيرًا ما تمنت لو بقيت في الشمال قرب عائلتها، ولم تنزح جنوبًا، حتى لو كان الثمن حياتها، غير أنها تتذكر أطفالها والخوف الشديد الذي أصابهم بعد ليلة رعب إثر الاجتياح البري الأول لمخيم جباليا، وقطع مسافة طويلة في طرق تتناثر فيها جثامين وأشلاء الشهداء، واجتياز "التفتيش المرعب" عبر حاجز نتساريم، قبل وصولها إلى مدينة رفح، حيث قضت فيها بضعة شهور قبل النزوح عنها مع بداية عملية عسكرية إسرائيلية متواصلة منذ أيار/مايو الماضي، دون أن تدري إلى أين ستقودها محطة النزوح المقبلة.
قلق وحزن
وبعناء شديد، تتمكن النازحة آمنة علوان من إجراء مكالمة ناجحة مع عائلتها المقيمة في منطقة "الجرن" المتاخمة لمخيم جباليا، وتمسكت منذ اندلاع الحرب بالبقاء في منازلها، ورفضت النزوح جنوبًا رغم المجازر المتلاحقة.
وبينما فضلت آمنة النزوح مع زوجها وأسرتها (8 أفراد) وتنقلوا من مكان إلى آخر منذ مغادرتهم جباليا في الشهر الثاني للحرب، فإن والديها وأشقائها وشقيقاتها وأسرهم (30 فردًا) غالبيتهم من النساء والأطفال تمسكوا بالبقاء في منازلها في جباليا.
في خيمتها التي تقيم بها مع أسرتها في دير البلح وسط القطاع، تتابع آمنة، ليلاً ونهارًا، الأخبار الواردة من جباليا وشمال القطاع، وتقول لـ "الترا فلسطين": "منذ عدة أسابيع لا أستطيع النوم بشكل جيد من قلقي الشديد على أهلي في جباليا، ويكاد التفكير أن يقتلني".
وتستذكر آمنة تلك الليلة التي تصفها بـ "ليلة موت" وكانت سببًا في نزوحها لجنوب القطاع، وتقول: "نجونا من الموت بأعجوبة، بيتي كان مهددًا بالقصف، وكنت مع أسرتي وعائلتي نازحين في منزل تعرض خلال الليل لقصف مكثف بقذائف المدفعية، وغارة جوية دمرت الطابق العلوي، وأنقذوا أمي من تحت الركام، واستشهدت زوجة عمي وابنة أخي، وغالبيتنا أصبنا بجروح".
وما أن انقضت تلك الليلة، نزحت آمنة وأسرتها إلى جنوب القطاع، حيث تنقلت من مكان إلى آخر، قبل أن تسكن في خيمة بمبنى الكلية التقنية بدير البلح، لكنها لا تعلم أيُّهما أفضل: قرارها بالنزوح أم قرار عائلتها بالبقاء والصمود.
"أنا الكبرى بين إخوتي وأخواتي، وعندما أسمع منهم كلمات الحب أشعر بقلق شديد من أنها قد تكون المكالمة الأخيرة، وهذه هي كلمات الوداع"
وتُحدث آمنة نفسها دومًا بأن "الموت يلاحقنا في كل مكان، وفي ظل الحرب فقدنا القدرة على التفكير والأمان". وتكمل بنبرة ممزوجة بكثير من الحزن والقلق: "أنا الكبرى بين إخوتي وأخواتي، وعندما أسمع منهم كلمات الحب أشعر بقلق شديد من أنها قد تكون المكالمة الأخيرة وهذه هي كلمات الوداع".
مجازر بهدف التهجير
وتشير تقديرات محلية ودولية إلى أن زهاء 400 ألف فلسطيني نصفهم في مدينة غزة والنصف الآخر في مناطق شمال القطاع، رفضوا الامتثال لإنذارات النزوح منذ اندلاع الحرب، التي تسببت في نزوح غالبية الغزيين، ليتكدس مليون و800 ألف نسمة منهم في الخيام ومراكز الإيواء في جنوب القطاع.
وبحسب رصد هيئات محلية ودولية، فقد قتل جيش الاحتلال أكثر من 1000 فلسطيني في عدوانه على شمال القطاع، وتسبَّب بإصابة الآلاف، كما أخرج المنظومة الطبية والدفاع المدني عن الخدمة. وبحسب روايات شهود من النازحين فإن عشرات جثث الشهداء ملقاة في الشوارع وليس بمقدور الطواقم المختصة الوصول إليها وانتشالها.
ويقول صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، إن الاحتلال يهدف إلى تفريغ جباليا وبلدات بيت حانون وبيت لاهيا ومناطق شمال القطاع من حوالي 200 ألف فلسطيني، ودفعهم للنزوح القسري تحت ضغط المجازر والحصار الخانق، وممارسة سياسة التجويع والتعطيش ضدهم.
يؤكد عبد العاطي، ارتكاب الاحتلال جرائم إعدام ميداني بحق أعداد غير محددة من النازحين
ويوضح صلاح عبد العاطي لـ"الترا فلسطين، أن جيش الاحتلال يُجبر السكان المدنيين على إخلاء منازلهم ومراكز الإيواء قسرًا تحت تهديد السلاح، والتوجه عبر شارع بيت لاهيا العام، ثم أثناء مرورهم القسري من المسارات التي حددها يتم تفتيش النساء والرجال والتحقيق معهم، مؤكدًا أن جيش الاحتلال اعتقل المئات من الرجال وقام بالتنكيل بهم واحتجازهم في أماكن مجهولة.
ويؤكد عبد العاطي، ارتكاب الاحتلال جرائم إعدام ميداني بحق أعداد غير محددة من النازحين. ويُشدد أن الاحتلال يلاحق الناس هناك بالقتل والمجازر بهدف تهجيرهم قسرًا وإفراغ شمال القطاع كليًا تمهيدًا للاستيلاء عليه بضمه والاستيطان به.