13-أبريل-2019

إنّ أسوأ وأردأ أنواع المنتوجات في التاريخ البشري هي تلك التي تُصنّع وتوزّع في السوق دون أن تُرفق بأي مواصفات، وهذا ما سعى ويسعى العالم الحيّ للتخلص منه. فأصبحت المواصفات والمقاييس رديف كل عملية إنتاج تتم، سواء كان ذلك المنتوج ماديًا أو فكريًا. 

فعلبة شوكلاتة من النوع الرديء بات لا يُمكن تسويقها اليوم دون أن يحوي غلافها تفاصيل مواصفاتها، والأمر ذاته ينطبق على الإنتاج الفكريّ، حتى أنّ القانون الجنائي حدد مواصفات كل جريمة وأوضح عناصها وأركانها، وبذلك لا يمكن أن يتم تجريم فعل دون تحديد دقيق لمواصفات الفعل المجرّم.

   تُهمة تأتي بسهولة على مختلف المقاسات، ومواصفاتها مطاطّة من تلقاء نفسها، يمكن توفير شرعية قانونية لها!  

في هذا الإطار جرّم قانون العقوبات الأردني لسنة 1960 إثارة النعرات والحضّ على النزاع بين الطوائف، ونصّ القانون على أنّ كل كتابة وكل خطاب أو عمل يقصد منه أو ينتج عنه إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحضّ على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة يعاقب عليه بالحبس مدة ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وبغرامة لا تزيد على خمسين دينارًا. 

القانون جاء واضحًا في تحديده لمواصفات هذه الجريمة، وحدد أن الفعل قد يكون مكتوبًا أو خطابًا، وربطه بهدف إثارة النعرات على أساس مذهبي أو عنصري، والمذاهب يمكن تحديدها بوضوح؛ ففي الإسلام على سبيل المثال هناك أربعة مذاهب هي المذهب الحنفيّ، والحنبليّ، والشّافعيّ، والمالكيّ، ولكل مذهب مواصفاته. أمّا العنصرية فتعني جماعة بشرية تعتقد أنها تملك مواصفات جاءت بناءً على أمور مورّثة مرتبطة بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم، وتعتمد في بعض الأحيان على لون البشرة، أو الثقافة، أو مكان السّكن، أو العادات، أو اللغة، أو المعتقدات، وبالتالي لا بد أن يؤخذ أيّ فعل يراد تجريمه على خلفية إثارة النعرات مدى احتوائه لأركان وعناصر الجريمة وفقًا للمواصفات التي يحددها القانون.

وما يثير الانتباه في السنوات الأخيرة، أن السلطات الرسمية الفلسطينية قد بالغت، بل افترت أحيانًا في توقيف واعتقال صحفيين فلسطينين أو ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي ووجهت لهم تهمة إاثارة النعرات الطائفية"، على خلفية آراء قاموا بنشرها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تنتقد أداء السلطة أو الأحزاب السياسية أو الحكومة أو الأجهزة الأمنية أو حتى انتقاد مسؤولين متنفذين بعينهم، وجميعهم ليسوا بطوائف أو مذاهب، فالطوائف أو المذاهب الموجودة في فلسطين التاريخية واضحة لا ريب فيها، وتشمل غالبًا كل من الأرمن، الأقباط، البهائيون، التركمان، الجالية الأفريقية، الجالية المغربية، الجماعة الأحمدية "القاديانية"، الدروز، الدوم "النّوَر" أو "الغجر"، السامريون، السريان، الشركس، البشناق، الموارنة، الأكراد. 

ولم يسجل في يوم من الأيام أن يكون من أوقف بتهمة إثارة النعرات الطائفية قد حاول إثارة نعرات بين أي من هذه الطوائف والمذاهب أو حتى بين اتباع الديانات السماوية في فلسطين، وبالتالي كل ما كتب ممن لوحقوا بتهمة إثارة النعرات الطائفية لا يتعدى كونه نقد سياسي، والنقد لا يمكن تجريمه بل هو حرية تعبير، وعلى الفرض الساقط لو كان هناك إمكانية تجريم هذا الفعل، فهي تكيّف بتهمة أخرى ولا تجرم بتهمة إثارة النعرات الطائفية، فهي كما يصفها العاملون في الوسط القانوني تهمة من لا تهمة له.

إنّ توجيه هذه التهمة إلى أي شخص أمر مريح للغاية إذا ما قورنت مثلًا بتهمة الذم والقدح، فهي ليست بحاجة إلى شكوى، ويمكن أن تباشر بها النيابة من تلقاء نفسها، ولا يمكن للمتهم بموجبها أن يطلب من المحكمة إثبات صحة المعلومات التي ذكرها حتى تتم تبرأته، فهي وفق المواصفات مطاطة، مناسبة لكلا الجنسين، تأتي بسهولة على مختلف المقاسات، يمكن توفير شرعية قانونية لها، لكنها مع ذلك لا تخفي أي من العورات تحتها فهي مكشوفة للجميع.  

ووفقًا لما تم رصده في السنوات الأخيرة من حالات واجهت تهم إثارة النعرات الطائفية، فإنّ الأجهزة الأمنية هي على الغالب من يبادر في توقيف الصحفيين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، ويجدون بيسر تغطية لهم من قبل النيابة العامة بتمديد التوقيف لمدة 48 ساعة، بعدها قد يُعرض المتهمون على قاضي الصلح وقد لا يعرضون، وإن عرضوا على القاضي فقد يمدد القاضي توقيفهم لـ 15 يومًا، وبعضهم يمدد لفترة أقل ويطلبون الملف التحقيقي، والبعض لديهم الجرأة أن يرفضوا التمديد على هذه التهمة ويطالبوا بالإفراج عن المتهم بتهمة بإثارة النعرات الطائفية.

  معظم الملفات التي نظرتها المحاكم موضوعًا بتهمة إثارة النعرات الطائفية إن لم يكن جميعها، حكمت المحكمة فيها ببراءة المتهمين

إنّ معظم الملفات التي نظرتها المحاكم موضوعًا بتهمة إثارة النعرات الطائفية -إن لم يكن جميعها- حكمت المحكمة فيها ببراءة المتهمين، وهذا يسجل لصالحها، لكن الملف الذي يجب أن يغلق من أساسه هو التوقيف على خلفية إثارة النعرات الطائفية، ويمكن تحويل أي ملف إن كان جديًا إلى المحكمة المباشرة، وحتى يكون الملف جديًا لا بد أن تنطبق عليه شروط عدة؛ كأن يكون القول قد صدر عن شخص مؤثّر، خلفه جمهور يتأثر به، وقد ينجم عنه أعمال عنف، يشتم منه رائحة التمييز والكراهية، وبذلك يصبح لتهمة إثارة النعرات الطائفية مواصفات، غالبًا ما تنطبق على المسؤولين أو رجال الدين أو شخصيات عامة قادرة بتصريحاتها على إشعال الفتن الطائفية، أمّا المواطن العادي ضعيف الحيلة فتكون  ملاحقته على هذه الجرائم بأضيق حالاتها، وفي حال الخطر الشديد، وهذا عكس ما يجري على أرض الواقع حيث يلاحق الضعيف ويعفى القوي، فتهمة إثارة النعرات الطائفية على إرض الواقع بلا مقاييس.


اقرأ/ي أيضًا: 

مجتمعنا المدنيّ أغصان بلا جذور

لسنَ بنات عم أحد!

من أين لكم كل هذه الكراهية؟