لعل أول ما يلاحظه المتابع لجولة الانتخابات المحلية الثانية في مناطق السلطة الفلسطينية (الضفة دون غزة)، في أيام دعايتها الانتخابية الممتدة حتى السادس والعشرين من الشهر الجاري، هو انحسار المضامين السياسية إلى الحد الأدنى، وتواري الأحزاب والحركات السياسية عن ساحة الانتخابات، وغلبة صفة مستقلة على القوائم الانتخابية، وتلك النبرة الواثقة التي يقدم فيها كثيرون أنفسهم بصفة "مستقل/ة".
يشيع قولٌ مفاده إن الانتخابات المحلية شأن غير سياسي، وهذا القول هو ممارسةٌ سياسيةٌ واعيةٌ وتحمل تضليلاً كبيرًا
يشيع قولٌ مفاده إن الانتخابات المحلية شأن غير سياسي، وهذا القول هو ممارسةٌ سياسيةٌ واعيةٌ وتحمل تضليلاً كبيرًا. فهذه الهيئات على تماس مباشر مع مفاصل العلاقة مع الاحتلال والصراع اليومي على الأرض، كل قضايا الأراضي وتخطيط المدن والتجمعات الحضرية وممارسة الوجود اليومي على الأراضي المقسمة والمهددة بالمصادرة والاستيطان هو من أهم اختصاصات هذه الهيئات. قضية المياه المزمنة في الضفة الغربية إلى جانب الكهرباء هي مفاصل يتحكم بها الاحتلال ويسيطر من خلالها على حياة كثير من التجمعات الفلسطينية إن لم تكن كلها، ويدير من خلالها سياساته في الضبط والمعاقبة. ثم إدارة النشاط الاقتصادي، المستهدف بالتضييق لصالح المنتج الإسرائيلي، والذي تراوده عروض التطبيع يوميًا أو العمل من الباطن لصالح الشركات الإسرائيلية، كلها قضايا الجهة المباشرة للتعامل مع اليومي من شؤونها يقع على عاتق الهيئات المحلية. فإلى أي أساس يستند هذا القول المتهافت بانفصال هذه الانتخابات عن الشأن السياسي؟!
من حيث المبدأ فشكل الانتخابات المحلية وتنظيمها بناءً على قوائم لا أفراد، هو تصميم مسيّس، وفلسطينيًا هنالك قناعة أن هذا النظام هو لإنقاذ الأحزاب غير القادرة على تقديم مرشحين يحظون برضى العامة ويتمتعون بحسن سيرة وسلوك مشهودين، فلذلك يتوقّع من اسم الحزب أو الحركة أن تحمل الشخوص إلى المواقع، لا أن يحمل الشخوص برنامج حركتهم إلى المجالس المنتخبة. وعلى الرغم من هذا الواقع، توارت الأحزاب والحركات وتنصلت من دعم واضح لقوائم هي من "كولست" طويلاً لتشكيلها، بل إننا نجد حزبيين مسيسين يدفعون عن أنفسهم العلاقة مع حزبهم وحركتهم ويتنصلون منها لقناعتهم أنها ستؤثر على التصويت لهم. وباتت صفة مستقل ومستقلة هي الملمح الغالب على هذه الانتخابات. وبلغ الأمر حد الحط من قيمة الأحزاب والحركات السياسية كفاعل في الحياة العامة، ضمن خطابات شعبوية مسيسة رائجة ترى الحركات السياسية سببًا في أحوال الفلسطينيين اليوم. هنا يقع خلط متعمد بين الأداة التي لا غنى عنها، وبين تجربتنا في استخدام الأداة، ثم الأخطر منه هو امتداد الخلط أو مطّه ليشمل الخلط بين المجال السياسي، وبين اللاعبين الحاليين فيه، فيتم تهميش السياسي والتعامل معه كمجال فاسد لا يفرز إلا فشلاً عامًا، ثم الأمل بإحراز نتائج أو تقدم في ميادين أخرى هناك وهْم أنها منفصلة عن المجال السياسي.
وما يستحق التأمل هنا وكثيرًا من التفكير قبل الانخراط في هذه الخطابات الملغومة، هو سلوك السلطة الفلسطينية إزاء الهيئات المحلية والبلديات هذه، وهو سلوك يعكس مسارًا مستمرًا من التهميش. ويمكن رد هذا لسببين رئيسين: أولاً: حقيقة السلطة وأدوارها تجعل علاقتها مع هذه الهيئات تنافسية، أو علاقة كاشفة عن حقيقة رؤية السلطة لنفسها، فهي تعرف في قرارة نفسها أنها بلديةُ كبيرةُ غير منتخبة بطابع أمني، والبلديات هيئات أهلية محلية منتخبة تعكس توجهات الناس، وعبّرت في محطات كثيرة عن قوة العمل الأهلي المنظم ذاتيًا والمعتمد على الشعور العام بالصالح الوطني العام، ثمة تنافسٌ هنا على الدور ومصدر شرعية لاعبه. ولذلك تحديدًا يعرف الناس كيف سعى الاحتلال لاستهداف الهيئات المحلية في سنوات حكمه العسكري/المدني، وكيف صار التنافس عليها بين الحركة الوطنية ومخاتير الإدارة المدنية، أبرز ملامح النضال الوطني لسنوات.
ثانيًا، يمكن النظر إلى الهيئات المحلية ضمن صورة أعم من استهداف كل هيئات أو مجالس منتخبة، لصالح الكيانات القائمة على التعيين والتوظيف أو تمثيليات الانتخابات بالإجماع. كلّ ما ينتخب هو مصدر تهديد للسلطة في طورها الحالي، وذلك لأنه متبدّل وخاضع لرقابة الناس ومساءلتهم ولا يسهل السيطرة عليه، في حين تسهل السيطرة على مؤسسات وهيئات التعيين والتوظيف بمركزية واضحة وسياسات الرواتب والأعطيات، ولعبة المنح والمنع بناءً على الموقف السياسي.
هذا التجريف المستمر للمجال السياسي، أفرز واقعًا يتوهم فيه كثيرون أنه يمكن تحييد هذا المجال عن الحياة العامة، وبدأت صفة مستقل تظهر في الحياة العامة. والحقيقة أن "مستقل" في كثير من تمظهراته العامة صار رديفا لـ"اللاسياسي أو اللامسيّس"
هذا التجريف المستمر للمجال السياسي، أفرز واقعًا يتوهم فيه كثيرون أنه يمكن تحييد هذا المجال عن الحياة العامة، وبدأت صفة مستقل تظهر في الحياة العامة. والحقيقة أن "مستقل" في كثير من تمظهراته العامة صار رديفا لـ"اللاسياسي أو اللامسيّس"، وهذا يبدو مرْضيًّا عنه من السلطة الحاكمة، بل ومدعومًا ومسهّلا له عمله ويمكن التحالف معه والتفاهم معه. وهذا كله ينتهي بمجرد أن يقدم طرحًا سياسيًا. وكان واضحًا أن اجتماع مستقلين في قوائم وتقديم برنامج انتخابي فيه بعدٌ سياسيٌ في الانتخابات التشريعية أدى إلى وأدها وإلغائها ثم الاستفراد بشخوص هذه القوائم بالملاحقة والضغط.
وهنا يمكن القول بثقةٍ إن مستقلاً لا يطرح برنامجًا سياسيًا أو يغيب الشأن السياسي عن برنامجه، هو مستقلٌ بممارسة سياسية مرضي عنها من طرف السلطة القائمة، وكل استقلاليته هي التفافٌ ناجمٌ عن قناعةٍ بأن الموقف السياسي الذي يتبناه لا يريده الناس ولن يصوتوا له.
إلى جانب عدم إجراء انتخابات في أكثر من نصف الهيئات بسبب التزكية أو الفشل في تشكيل قوائم (50 من أصل 106 فقط ستجري فيها انتخابات هذه الجولة). إن من المعبّر أن تغيب البرامج الحقيقية من انتخابات المدن الأكبر، ولا يبدو أن هنالك ما يختلف عليه المرشحون، وهذا ناجمٌ أساسًا عن تفريغ الانتخابات من محتواها السياسي. وهذا يقول بوضوح إن السياسي هو الشأن الخلافي الحقيقي في واقع شعب تحت الاحتلال، وكل القضايا الحياتية مهما بدت بسيطة إن نزعنا منها الشق السياسي لن يكون هناك خلافٌ جوهريٌ عليها. وبدون السياسي نجد كيف تصير القضية الخلافية في أهم مدينة فلسطينية والمركز السياسي للسلطة اليوم هو من أي عوائل يجب أن يكون رئيس البلدية. ويصير الأمر برمته متمركزًا حول مَن يشغل المنصب لا حول ماذا سيفعل وهو فيه، وهذا ما يجعل النقاش المحلي ينحطّ إلى نقاش عوائل وعشائر أو حارات وأصول.
اقرأ/ي أيضًا: