لم تكن أمُّ الشهيد منهارةً، كانت صلبةً جدًا، لم تكن تبكي، كان وجهها نضِرًا، مع منديلها ذي الألوان الأربعة، ألوان العلم الفلسطيني. ميكروفونات الصحافة وكاميراتهم كانت تحيط بها، وهي تدير وجهها نحو هذا الصحفي ونحو ذاك، تُحرِّك فمها، وتدلي بتصريحاتها، مشاعرها، ردة فعلها عندما وصلها نبأ استشهاده، وكل ذلك ترصده مايكروفونات الصحافة وكاميراتهم التي تتأرجح بين أم الشهيد وجموع المودعين، الذين يتقدمون، واحدًا واحدًا، لوداع الشهيد كأنهم يمارسون صلاةً.
في فلسطين، كل أم هي مشروع حزنٍ وخسارة وزغرودةٍ مخادعة
عادت الكاميرا إلى أم الشهيد، التي أدارت وجهها نحو الصحفي، وقالت: أتمنى أن يكون ابني سببًا في تحرير فلسطين، ودَعَت الشبابَ الفلسطينيَ إلى الثورة ضد المحتل، لكنها أضافت جملة لم أسمعها قط من أي فلسطيني، قالت: "ولكن بأقل الخسائر". لا أحد يفهم معنى الخسارة إلا الأم، الأم التي كانت تراقب ابنها مذ كان مضغةً ثم علقةً ثم جنينًا، وطفلاً يحبو، يتعلم الكلام، يذهب إلى المدرسة، يلعب، يذهب إلى الجامعة، يحمل أملًا، ثم بلحظة، بطرفة عين، برصاصةٍ أو أقل يعود جثةً هامدةً صامتةً، مع ابتسامةٍ أو أقل. هي وحدها من يفهم ويعرف المعنى الحقيقي للخسارة.
في فلسطين، منذ بدأ الاحتلال يضع رصاصاته في أجسادنا، منذ مؤتمر بازل، وهو يجعل من كل بيت فلسطيني احتمالًا لجنازة شهيد، كل بيت هو مشروع خروج جنازة، كذلك كل أم هي مشروع حزنٍ وخسارة وزغرودةٍ مخادعة.
في نهاية أي مقال، خبر، يضع المحرر كلمات دلالية مفتاحية، ليصل الخبر أو المقال إلى أكبر عدد من القارئين، في نهاية خبر جنازة الشهيد، سيضع المحرر الكلمات التالية: شهيد، وطن، احتلال، فلسطين.. وغيرها.
كل من يضع كلمة فلسطين في خانة البحث، كل من يبحث عن فلسطين سيجد كلمة شهيد بلون مغاير مختلف عن باقي الكلام/ النص/ الحدث/ الوطن/ الحرية. جرب أن تبحث عن فلسطين مرة أخرى ستجد شهيدًا آخر سبقكَ في البحث عنها، ولكن ليس على محرك البحث غوغل.. بل بحث عنها في قلبه.