25-سبتمبر-2024
الحرب على لبنان وموقف إسرائيل

(Getty) مبنى في مستوطنة كريات شمونة بعد رشقة صاروخية من جنوب لبنان يوم 24 أيلول/سبتمبر

منذ حرب لبنان الثانية، مرورًا بالحروب المتوالية على قطاع غزّة، سالت أنهار من الحبر، هي عصارة ما تفتّقت عنه تحليلات وتقيميّات منظري الحرب الإسرائيليّين بعد تحليل كلّ مفردة من مفردات تلك المواجهات الدامية، لرسم ملامح الحرب المقبلة، وتحديد متطلّبات "النصر وشروط هزيمة العدوّ".

تلك المبادئ التوجيهيّة بالإمكان إيجازها في 6 نقاط رئيسيّة:

1. تحديد العدوّ الجديد: فالعقيدة الأمنيّة القديمة لإسرائيل، الّتي وضعت في عهد دافيد بن غوريون، لم تعد مناسبة في مواجهة التنظيمات مثل حماس وحزب اللّه. وبناء على ذلك، باتت العقيدة الأمنيّة تركّز على مواجهة منظّمات غير نظاميّة أو الفواعل اللادولانيّة، بدلًا من الجيوش النظاميّة.

2. مقاربة متعدّدة الجوانب: عدم الاعتماد الحصريّ على الجيش في مواجهة حماس وحزب اللّه. وبدلًا من ذلك، يجب أن تسير العمليّات العسكريّة والسياسيّة والقضائيّة والاستخباراتيّة والدعائيّة جنبًا إلى جنب لتكون أكثر فعّاليّة في ضرب هذه التنظيمات.

3. حرب قصيرة وحاسمة: يجب أن تكون أيّ حرب ضدّ حماس أو حزب الله، قصيرة بهدف تقليل الخسائر وتجنّب تدهور الوضع على المدى الطويل. وذلك، لكون الحرب طويلة الأمد ستعطي العدوّ الفرصة للتكيّف مع الوضع وإطالة أمد الصراع.

4. التحرّك وفق خطّة محكمة: ضرورة التخطيط الاستراتيجيّ مسبقًا وعدم الاندفاع إلى عمليّات عسكريّة دون جاهزيّة تامّة.

5. التفريق بين العناصر القياديّة والمدنيّة: إيجاد فوارق في المصالح بين القادة والمقاتلين من جهة، وبين المدنيّين المحيطين بهم من جهة أخرى. والهدف، بحسب تصوّر إسرائيل، هو "دقّ إسفين"، بينهم لضرب الانسجام الداخليّ.

6. عدم الاقتصار على القوّة الناريّة فقط: إلى جانب الاستخدام المفرط للنيران والقصف الجوّيّ، إذ يجب استخدام تكتيكات عسكريّة ذكيّة وحيل عسكريّة واستخباريّة، بدلًا من الاعتماد فقط على القوّة التدميريّة الكبيرة.

حتّى لو احتلّ الجيش الإسرائيليّ رقعة واسعة من المناطق اللبنانية حتّى نهر الليطاني، فإنّ تكلفة "الإمساك بالأرض" ستكون مرتفعة جدًّا، وليس من المتوقّع، بل من المستبعد أن تقوم الخطّة القتاليّة لحزب اللّه على خطوط قتال يدافع عنها

وأبرز النصائح المستخلصة من تحليل الحروب السابقة، الّتي طبّقت في الحرب على غزّة، والّتي يطالب قادة الجيش السابقين عبر القنوات التلفزيونيّة بها، كما فعل اللواء احتياط في الجيش الإسرائيليّ عميرام ليفين، قائد المنطقة الشماليّة سابقًا في حديث أجرته معه القناة الـ12 الإسرائيليّة، يتمثّل في اعتبار جمهور حماس، وهو يقصد أهالي قطاع غزة، "شعب العدوّ".

وانخرط المفكّرون الإسرائيليّون في دراسة عميقة للحرب الإسرائيليّة على غزّة عام 2009، بهدف صياغة استراتيجيّات مستقبليّة، وكان من أبرز المشاركين اللواء احتياط عوزيّ ديان واللواء احتياط غيورا آيلاند. ومن خلال المحاضرات الّتي قدّماها في معهد الأمن القوميّ، ظهرت توجيهات متشابهة، تتضمّن ضرورة التحوّل من وصف الصراع مع حماس كـ"عمليّات عسكريّة" إلى اعتباره "حربًا"، مع الاعتراف بحماس كـ"جيش" متكامل.

كما أكّد على تصنيف الفلسطينيّين في غزّة كـ"شعب دولة معادية"، ممّا يستدعي تطوير نظريّة حرب تستهدف الشعب باعتباره "عدوًّا"، الأمر الّذي يتطلّب تدمير البنية التحتيّة بشكل جذريّ، باعتبارها "الجبهة الداخليّة للعدوّ".

لكنّ النصائح المستجدّة حاليًّا، تطالب بالحفاظ على المنهج التدريجيّ المكثّف والعنيف والدمويّ في الحرب، أملًا في قبول حزب الله بدفن عقيدة "وحدة الساحات"، وإعادة المستوطنين إلى الشمال، ومواصلة الاستفراد في قطاع غزّة.

وأعرب عاموس يدلّين، رئيس القسم السياسيّ الأمنيّ في وزارة الأمن لعقود وصاحب الخبرة الطويلة في الملفّ اللبنانيّ والفلسطينيّ، عن استغرابه من إصرار حزب الله على تمسّكه بجبهة الإسناد، مستبعدًا خضوع حزب اللّه لمطلب الانسحاب إلى ما وراء نهر الليطاني، وعلى هذا الأساس، قال "خيار العمليّة البرّيّة غير مستبعد".

وفورًا بعد تفجيرات "البيجر"، ساد تقدير لدى منظري الحرب من كبار الجنرالات السابقين في إسرائيل، أنّ هذه العمليّة "فتحت الباب أمام تسوية تشمل الجبهتين"، في حال كانت نيّة لدى الحكومة الإسرائيليّة لذلك، أي لوقف الحرب بالتزامن، على جبهة الشمال وغزّة، والتوصّل إلى صفقة تبادل. وأشارت التقديرات إلى أنّه في حال لم يحدث ذلك، فإنّ تفجيرات "البيجر" لا تكفي بحدّ ذاتها، بل يجب أن تتوالى بعدها الضربات لتجريد حزب اللّه من قدراته.

واحتدم السجال بشأن دواعي وسلبيّات وإيجابيّات ومحاذير الحرب البرّيّة وهدفها النهائيّ. كما قال عميرام ليفين، الخبير في الجنوب اللبنانيّ: "الحرب البرّيّة تفتح المجال أمام القوّات لتمشيط الجبال والقرى بحثًا عن منصّات الصواريخ والمواقع السرّيّة لحزب اللّه"، لكنّ الجنرال المجرّب يدرك أنّ تكلفة السيطرة على الأرض عالية جدًّا، خصوصًا في بيئة جبليّة وعرة وشاسعة، وأنّ تمشيط الجبال والقرى يتطلّب وقتًا طويلًا، وكل هذا على أبواب فصل الشتاء.

خبراء الحرب البرّيّة في إسرائيل، طوال سنوات الحرب في سوريا، كان الغيظ يأكلهم. رغم خسائر حزب الله الّتي كانت "تفرحهم"، فإنّ تلك المعارك، خصوصًا الّتي خاضوها مع مقاتلين عقائديّين من تنظيم "الدولة الإسلاميّة"، صقلت خبراتهم القتاليّة والتنظيميّة والإداريّة. وبذلك، فإنّ المقاتلين الّذين تقوم عليهم الخطّة الدفاعيّة لحزب الله في حال الحرب البرّيّة، لديهم خبرة قتاليّة نادرة، فوق أنّهم أهل الأرض، ويعرفونها كما يعرفون أجسادهم. لكنّ الجيش الإسرائيليّ على الأقلّ، على صعيد الادّعاء المعلن، يزعم أنّ الحرب في غزّة ساهمت في رفع كفاءة مقاتليه في الحرب البرّيّة، لكنّ ذلك يبقى في إطار تقديرات غير دقيقة. وحتّى الآن، فإنّ معظم فرق الجيش الإسرائيليّ قاتلت في الحرب على غزّة بالتناوب، ومعظم الجنود لم ينخرطوا في معارك فعليّة.

حقيقة، ما جرى في غزّة كان قصفًا يدمّر كلّ شيء، ثمّ تدخل من المدرّعات مع فارق في معطيات الميدان الطبوغرافيّة والإمكانيّات التسليحيّة. إذ إنّ معظم صواريخ حماس المضادّة للدروع والعبوّات الناسفة من صنع محلّيّ وقصيرة المدى، فيما يمتلك حزب الله مخزونًا أكبر من قذائف أكثر فتكًا، وعلى مدار أشهر كان سلاح المعركة الأساسي لديه، صواريخ الكورنيت، المضادة للدروع، إلى جانب إدخال صواريخ "ألماس" ذات التقنية العالية، وهي هندسة عكسية لصواريخ "سبايك" الإسرائيلية.

حتّى لو احتلّ الجيش الإسرائيليّ رقعة واسعة من المناطق اللبنانية حتّى نهر الليطاني، فإنّ تكلفة "الإمساك بالأرض" ستكون مرتفعة جدًّا، وليس من المتوقّع، بل من المستبعد أن تقوم الخطّة القتاليّة لحزب الله على خطوط قتال يدافع عنها. بل سيطبّق نفس تكتيكات حماس في قطاع غزّة، الّتي أثبتت فعّاليّتها، وذلك لن يمنع حزب الله، بحسب تقديرات الخبراء، من الاستمرار في إطلاق الصواريخ على المناطق الشماليّة، ولن يعود المستوطنون لمنازلهم في المناطق المحاذية للحدود، وهو هدف الحرب الجديد/القديم.

وفي عرف التنظيمات مثل حماس في غزّة وحزب الله في لبنان، هناك ما يعرف بقيادة الظلّ وجهاز الظلّ، ضمن خطّة التعافي، أي أنّه في حال تعرّضت الأجهزة العسكريّة لضربات غير متوقّعة في مفاصل العمل الرئيسيّة أفقيًّا وعاموديًّا. ومن اغتيلوا من قادة حزب الله انقضى على انخراطهم في العمل العسكريّ حوالي 40 عامًا، في مواجهة أعتى الأجهزة الاستخباريّة في العالم، من إسرائيل إلى أميركا. ومن المؤكّد في إسرائيل، أنّهم أعدّوا أجيالًا عديدة بعدهم.

لكنّ الجيش الإسرائيليّ، مقارنة بحرب لبنان الثانية قطع شوطًا كبيرًا في التقديم التقنيّ، خاصّة في مجال الاستطلاع الميدانيّ ومزامنة رصد الأهداف الصغيرة المتحرّكة، لا سيّما الأفراد، مع توجيه ناريّ كثيف ودقيق. في المقابل، رفع حزب الله من قدراته على الاستطلاع الميدانيّ في أثناء القتال، مقارنة بذات الحرب، لكنّ كفّة التفوّق التقنيّ تميل بالطبع إلى ناحية إسرائيل.

حاليًّا يخوض حزب الله حربًا على جبهات داخليّة من بينها جبهة التعافي التنظيميّ، ويبدو أنّ الضربات أصلًا لم تفقده توازنه، ويمكن التدليل على ذلك بالتدقيق في الوجبات الصاروخيّة، الّتي تأتي في أوانها، ووفقًا لخطّة مدروسة صودق عليها سلفًا، والجبهة الأخرى هي تحديد الخلل الأمنيّ، الّذي أسفر عن عمليّات الاغتيال، ومن يتولّى هذا الجهد هو الجهاز الأمنيّ المشهود له حتّى من خصومه بالكفاءة العالية.

في المجمل، إسرائيل تسعى حاليًّا لتكثيف الحملة الجوّيّة وتعميق آثارها الدمويّة سعيًا إلى دفع حزب الله لاستخدام صواريخه الاستراتيجيّة، وهي ضمن منظومات تحت الأرض في أنفاق استراتيجيّة تستخدم لمرّة واحدة في لحظة الإطلاق، ويسود الاعتقاد لدى الأجهزة الاستخباريّة الإسرائيليّة أنّ فوّهة الإطلاق لم تحفر نحو الخارج بعد، وإنّما يتمّ ذلك خلال فترة وجيزة قبل الإطلاق.

وخلال الأيّام المقبلة، من المتوقّع أن تواصل إسرائيل تصعيدها بشكل تدريجيّ، مع التركيز على استهداف التجمّعات السكنيّة الّتي تعتبرها حاضنة شعبيّة لحزب الله أو كما توصف في لبنان على أنّها "بيئة الحزب". وتهدف هذه العمليّات إلى إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا المدنيّين وخلق دمار واسع.

في المقابل، سيواظب حزب الله على تنفيذ عمليّات القصف وتوسيع نطاقها، والتكيّف مع أجواء الحرب، وفي هذا رهان إسرائيليّ على استدراج الحزب لقصف أهداف مدنيّة لاتّخاذها ذريعة لإحداث المزيد والمزيد من الدمار في لبنان، خلال فترة قصيرة يتدخّل على إثرها المجتمع الدوليّ للضغط على حزب اللّه للإذعان للمطالب الإسرائيليّة، وفشل إسرائيل في هذا التصوّر، يعني فتح الحرب على احتمالات عديدة من بينها حرب استنزاف طويلة، تخشاها إسرائيل، وأعدّ حزب الله نفسه لها منذ عقود.