على عجل، ارتدى محمد إيهاب، سبعة عشر عامًا، معطفه الخريفي، وخرج ليقابل رفاقه الثلاثة، الذين جاؤوا لاصطحابه إلى درس اللغة الإنجليزية. كانت أمه تجلس في صالة البيت عندما أخبرها أن موعد دفع تكاليف هذا الدرس الشهري قد حان.
ترك محمد أمه مرهقة، شاردة الذهن، تشغل بالها طريقة توفير نقود الدروس الخصوصية، فهذا الفتى الذي تعاني أسرته من وضع اقتصادي صعب، واحد من آلاف طلبة الثانوية العامة الفلسطينيين الذين يلتحقون بالدروس الخصوصية، خاصة في اللغة الإنجليزية والرياضيات والمواد العلمية، إذ لم تنجح جهود وزارة التربية والتعليم بالتصدي لهذه الظاهرة.
لم تنجح جهود وزارة التربية والتعليم في غزة بالتصدي لظاهرة الدروس الخصوصية خاصة بالنسبة لطلاب الثانوية العامة
يعيش محمد في مخيم الشاطئ، غرب مدينة غزة، وهو أمل أسرته الوحيد في أن يصبح شابًا متعلمًا حاصلًا على وظيفة رسمية، تقول أمه وتكنى بـ"أم وائل": "كلنا أمل أن يصل ابني محمد للمرحلة الجامعية بعد أن فشل شقيقه الأكبر، ولذلك اضطررنا لإلحاقه بالدروس الخصوصية هذا العام من أجل ضمان النجاح".
الدروس الخصوصية.. ظاهرة جليّة
يوضح داود حلس، الأستاذ المشارك بكلية التربية في قسم المناهج وطرق التدريس، أن "الدروس الخصوصية في مرحلة الثانوية العامة لم تكن موجودة كظاهرة بمحافظات غزة في السابق، ويحمًل وزارة التربية والتعليم مسؤولية تحولها إلى ظاهرة". ويقول لـ"ألترا صوت": "المفترض أن يكون هناك مراكز تعليم تشرف عليها الوزارة لمساعدة الطلاب المحتاجين لمثل هذه الدروس، يجب أن لا يبقى الأمر في يد مدرسين ومراكز تعليم تجارية".
ويرجع دكتور حلس سبب انتشار الدروس الخصوصية إلى ضعف الطالب، وأيضًا إلى طمع بعض المدرسين، فقد يجبر هؤلاء الطلبة للخضوع لدروس خصوصية عندما لا يكون أمينًا في إيصال المعلومات لطلابه، أو يختلف اهتمامه بالطالب في المدرسة عنه في الدرس الخصوصي. ويشدد حلس إلى أن "مشكلة الدروس الخصوصية قد تؤدي في المستقبل إلى تكوين طالب اتكالي بدرجة كبيرة وكسول ولا يعمل إلا من أجل الاستظهار والحفظ ضاربًا بعرض الحائط هدف التعليم وهو تنمية التفكير، والتعليم من أجل الابتكار والإبداع".
يرجع البعض انتشار الدروس الخصوصية في غزة إلى طمع بعض المدرسين وكسل الطلاب
أي مسؤولية للوزارة؟
الأصل في الأمر ألا يقوم المدرس التابع لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية بإعطاء دروس خصوصية، لأنه يتقاضى أجرًا عن عمله الأساسي، وقد وقّع عقدًا بأن لا يعمل عملًا آخر، ومخالفة العقد توقعه تحت طائلة العقاب. وقد اتخذت الوزارة في عام 2010 قرارًا بوقف الدروس الخصوصية وقامت بتحذير المخالفين بالعقوبة والملاحقة القانونية، إلا أن نائب مدير عام العلاقات الدولية في وزارة التربية والتعليم بغزة معتصم الميناوي يقر لـ"ألترا صوت" أن "الوزارة في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها غزة بسبب عدم تلقي موظفي حكومة القطاع لرواتبهم "تغض الطرف" عن متابعة هذه الظاهرة ومحاسبة المدرسين".
ويتابع الميناوي: "نحن نقوم بإعطاء الطالب المعلومات على أكمل وجه سواء في المدرسة أو من خلال الإذاعة التعليمية أو الموقع الإلكتروني الذي ينشر مواد تعليمية مرئية ومطبوعة". ويستطرد الميناوي بنقد ما أسماه "العرف" لدى الفلسطينيين الذي يحتم على طالب الثانوية العامة مهما كان مستواه الدراسي الالتحاق بالدروس الخصوصية، ويضيف: "يظن الطالب وولي أمره أن الدروس الخصوصية بمثابة جسر حام له من الرسوب أو يساعده على تحصيل درجات عليا، لذلك من الصعب أن نمنع الطالب من الالتحاق بالدروس الخصوصية"، مشيرًا إلى وجود مراكز تعليمية مرخصة من قبل وزارة التربية والتعليم، وهي تعمل بشكل تجاري مستقل، تحت مراقبة وزارة التربية والتعليم.
اتخذت وزارة التعليم في غزة عام 2010 قرارًا بوقف الدروس الخصوصية وقامت بتحذير المخالفين
أسباب الظاهرة
يؤكد الباحثان الفلسطينيان د.عزو عفانة ود.فؤاد العاجز أن "ظاهرة الدروس الخصوصية فرضت نفسها في الآونة الأخيرة بالمجتمع الفلسطيني، لتصبح ظاهرة مقلقة وخطيرة"، ويذكر الباحثان في دراستهما المشتركة تحت عنوان "ظاهرة انتشار الدروس الخصوصية بالمرحلة الثانوية في محافظة غزة أسبابها وعلاجها" أن انتشار الظاهرة يعود إلى إهمال المدرس بالتعليم الرسمي وترسيب العديد من الطلبة في الامتحانات حتى يقدموا على أخذ دروس خصوصية لديه، أو أن المدرس يعمل على تعقيد المادة التي يدرسها لطلبته في الفصل الدراسي حتى يشعروا بحاجتهم لمساعدة.
ويرجع الباحثان بروز ظاهرة الدروس الخصوصية إلى ما بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، إذ حملت أفواج العائدين الفلسطينيين عادات وتقاليد متمايزة طبقًا للدول التي كانوا يعيشون فيها قبل عودتهم، ومن هذه الصفات تعوّد أبنائهم على أخذ دروس خصوصية في المواد الدراسية المختلفة وكأنها شيء إلزامي.
اقرأ/ي أيضًا:
التنمية والتعليم في فلسطين.. المنهج استعماري!