23-أكتوبر-2015

السكاكين في قلوبنا أيضًا(جعفر أشتية/أ.ف.ب)

حينما كنت صغيرًا وأشاهد على شاشة التلفزيون، أطفالًا وشبابًا يضربون بالحجارة جنديًا حاملاً للسّلاح، كان السؤال، كيف لمن يملك حجارة فقط أن يقذفها تجاه جندي تكفيه رصاصة واحدة كي يقتل الشاب الأعزل صاحب الحجارة؟ لم أكن أملك إجابة، ولكن كلّما كبرت، اكتشفت ما كان خفيًا وما لم أفهمه يومًا في طفولتي. وكان ذلك الشاب الفلسطيني الأعزل الذي يواجه عدوّه، بالحجارة أو بالسكّين أو غيره، الأسطورة التي تشكّلت في ذهني منذ صغري ولاتزال.

مع انطلاق الانتفاضة أو الهبّة الشعبية الجارية، ولا يهمّ أن نغوص في تحديد التوصيف أمام قداسة المشهد، أصبحت المقاومة بالحجارة والسكّين، تثير عندي مشاعر الفرح والحزن في نفس الوقت. حينما أجد شاباً ضفاويًا لم يُكمل العشرين من عمره، من مواليد "ما بعد أوسلو"، يضحي بنفسه من أجل أرضه، أفرح كثيرًا لأن ما راهن العدوّ عليه، تصريحًا وتلميحًا، بأن الأبناء سينسون، لم يكن إلا وهمًا.

ما راهن عليه العدو الصهيوني بأن الأبناء سينسون لم يكن إلا وهمًا

أفرح كذلك لأنه في زمن النكسة التي تعيشها الثورات العربية وحالة الإحباط التي عمّت الشباب العربي، لايزال الدّرس في الصمود والثبات يأتينا من رجال يقاومون بأبسط ما يملكون تجاه محتل متجبّر. من هنا، نواصل تلقّي الدّروس من الأرض المقدّسة ورجالها. ومن ذلك، يتولّد شعور بالحزن أيضًا، فالحجارة والسكين التي تضرب جسد الغاصب المحتلّ، تضرب كذلك قلوبنا، أشعر أنهم يواسوننا ويشدّون من أزرنا في مصابنا الجلل في وقت كنا نحن نظنّ أننا نواسيهم.

يحمل الرجال الحجارة والسكين، ويصنعون الصواريخ بوسائلهم البسيطة، فيما تتصدّر دول عربية، تدعّي أنها ملتزمة بالقضية الفلسطينية، قائمة الدول المورّدة للسلّاح في العالم وتحمل مخازنها أحدثها، بل إنها تهاجم المقاومة المسلّحة ويقول بعض غربانها ماذا يفيد الطعن بالسكين أمام الدبابات؟ إن هذا العواء هو بعض مما تنبحه كلاب ضالة، ضلّت طريق العزّة والشّرف في مقابل طريق معبّد عنوانه الخيانة المقنـّعة.

نقول إن هذه المفارقة بين أعزل مُعدم الوسائل سلاحه إيمان وكبرياء وقريب قوي لا يساعد بل يطعن في الظهر، تؤكد من جديد أنه لا طريق لإسناد الأعزل إلا بإسقاط الحكام الأعداء وتمكين أهل الحق الأصدقاء. ولذلك فإن سكاكين الفلسطينيين العزّل تجاه المغتصبين الصهاينة هي كذلك سكاكين في قلوبنا مرّة أخرى، حينما يحكمنا صهاينة بلسان عربي.

إن هذه السكاكين بقدر ما تلهبنا كلّما سمعنا أنها دُغرت في جسد مغتصب، بقدر ما يصيبنا حرج حينما نستورد شرف غيرنا لنخفي خيبتنا. نحن طبعًا جسد واحد في وطن واحد ولكن إلى متى سنبقى نستتر وراءهم؟ هل يسمحون لنا بذلك؟ هل يتكرّموا لنا بذلك؟ ما دمنا نشاهد ونكتفي بالدعاء والخطب والكتابة والحديث عن الدعم المعنوي، فإننا مقصّرون. دعنا من الحديث بأن القلم هو سلاح، الآن لا يوجد إلا سلاح واحد هو سلاح المقاومة المسلّحة وغيره هو ما دونه مرتبة وأدنى منفعة.

إن سكاكين الفلسطينيين العزّل تجاه المغتصبين الصهاينة هي كذلك سكاكين في قلوبنا مرّة أخرى، حينما يحكمنا صهاينة بلسان عربي

هذه السكاكين، من المفروض أيضًا، أن تضرب أجساد بعض الفلسطينيين الذين يروّجون لمصطلحات التعايش السلمي، والسلام الدائم، والأمن المتبادل. محمود عباس مثلًا يبدو مرتبكًا جدًا في خرجاته الأخيرة، مشهد السكاكين يعرّيه أكثر ممّا تعرّى سابقًا. وربما يكثف الفلسطينيون ترتيب خطواتهم مستقبلًا، ويكون إسقاط السلطة، استكمالاً لسيناريو الثورة العربية وباعتبار السلطة صارت مطبًّا لكل خطوة حقيقية للأمام وتعمل كمخفف ضغط عن الكيان الصهيوني في الضفة عبر أمنها. لا يجب أن نستغرب أي شيء وأن لا نسقط كل الممكنات.

وهذه السكاكين تضرب النظام المصري الذي يحاصر غزة وتعرّيه! فنحن أمام نظام لم يعد يكترث لأبسط ما يحفظ الوجه، لا يتردد في إعلان المقاومة إرهابية، ولا يتردد في التضييق على سكان غزة ويحاصرهم، ولا يتحرّج من إعادة فتح السفارة الصهيونية. يبدو أن سكاكين الأبطال في الضفة والقدس لا تهمّ نظامًا يُعتبر رئيسه كنزًا استراتيجيًا لإسرائيل، حسب الصهاينة أنفسهم، فهذه السكاكين لا تهمه ليس فقط من باب المنتَظر من جار عزيز، بل من باب ما يمكن أن يحفظ ماء وجهه أمام الرأي العام الداخلي على الأقل. نحن أمام عصابة في مصر لم يعد يهمّها الفعل الكبير ولم تعد تتجاوب ولو بالقول الضعيف.

في غزة المحاصرة، دافعت أرض عربية صغيرة عن شرف أمّة بأكملها. وفي الضفة والقدس، تتواصل المقاومة. والآن، قلوبنا لم تعد تستحمل أن نرى كل يوم امرأة يُنكّل بها في القدس، وشابًا يُضرب ويُركل من المستوطنين والجنود، هذه الصّور قاتلة، وحينما نرى رجالًا يقاومون بأبسط الأسلحة، السكاكين، نُقتل أكثر لذلك فهذه السكاكين في أجسادهم وفي قلوبنا أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا:

الانتفاضة التي يريدها أبو مازن

نون النّسوة في المقاومة الفلسطينية