17-أكتوبر-2015

وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي يقدم وئاثق إلى المحكمة الجنائية الدولية 2015 (Getty)

بعد عدّة محاضرات حول نظام "محكمة الجنايات الدولية" في أحد المساقات القانونية مع خبير قانوني فلسطيني، لم يكن من الصعب عليّ أن أخلص إلى استنتاج أنه ليس هناك أية فائدة حقيقية ترجى من انضمام فلسطين كدولة طرف في هذه المحكمة. بل ما تراءى لي هو أن هناك خطر حقيقي من قبول أنظمة المحكمة والتوقيع عليها، في ظل غياب موقف دولي عادل من القضية الفلسطينية، والانحياز الواضح لصالح إسرائيل على الساحة السياسية الدولية.

ليس هناك أية فائدة حقيقية ترجى من انضمام فلسطين كدولة طرف في هذه المحكمة الجنائية الدولية

كان هذا الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه فرد من أفراد أجهزة الأمن الفلسطينية (برتبة عقيد)، في إحدى الندوات مع الخبير القانوني ذاته، حول انضمام فلسطين إلى المحكمة، حيث لم يتمالك نفسه في نهاية الندوة وطرح سؤالًا عفويًا ساخرًا: "إذا كان الحال هكذا.. لم انضممنا لهذه المحكمة؟!". فما كان من الخبير القانوني إلا أن ابتسم هنيهة، ثم تدارك نفسه بالإسهاب في شرح الإيجابيات الكامنة من وراء الانضمام. 

اقرأ/ي أيضًا: ما يشبه مقاطع فيديو فلسطينية

في ظل ثغرات كثيرة في ميثاق روما وهو النظام الأساسي لمحكمة الجنايات، وهي ثغرات واضحة تكاد لا تحتاج لخبير قانوني يشير إليها، تمالكتني أسئلة كثيرة، ليس فقط حول جدوى انضمام فلسطين إلى "محكمة الجنايات الدولية"، ولكن حول جدوى المحكمة نفسها. لم أنشئت هذه المحكمة من الأساس، لماذا جاء ميثاق روما فضفاضًا وغامضًا إلى هذا الحدّ؟!. ألم يشرف على وضعه خبراء قانونيون عالميون، فهل غابت عن أذهانهم خطورة هذه الثغرات؟ أم أنها ثغرات مقصودة، تجعل من العدالة الإنسانية لعبة سياسية، ومن النصوص القانونية أدوات تفسر حسب المزاج السياسي؟!. 

إن هذه الأسئلة تضيق الخناق على القانونيين، الذين يصرون على أهمية القوانين والشرائع الدولية في حماية الإنسان والدفاع عن حقوقه. ولا أنكر مثل هذه الأهمية، حتى وإن بدا وجود أجهزة العدالة الدولية صوريًا وغير فاعل بل ومسيس في كثير من الأحيان وورقة في يد الدول الكبرى لفرض الهيمنة، إلا أن وجودها هو خطوة أساسية في تطور الفكر القانوني الإنساني، وفكرة حقوق الإنسان والتي هي فكرة حديثة نسبيًا.

كغيرها من أجهزة العدالة الدولية، أثارت محكمة الجنايات الدولية انتقادات واسعة أثناء تأديتها مهامها، كما حدث أثناء محاكماتها في الجرائم المرتكبة في يوغسلافيا السابقة (الجرائم المرتكبة في البوسنة والهرسك)، ومحاكماتها في الجرائم المرتكبة في رواندا التي امتدت تحقيقاتها لقرابة العشرين عامًا، وكلفت هذه التحقيقات ما يقارب 2 مليار دولار. اعتبر المراقبون المدة الزمنية التي استغرقتها التحقيقات مدة طويلة بشكل مؤلم، أما التكاليف فهي تكاليف خيالية، إضافة إلى أن المحاكمات عقدت خارج رواندا، بالتالي كانت بعيدة عن أماكن ارتكاب الجرائم وبعيدة عن الضحايا، وكما عبّر بعض الخبراء "خارجة عن سياق الصراع". كما لم تتمكن المحكمة من تقديم كافة المطلوبين للعدالة، فقد فرّ العديد منهم إلى دول رفضت التعاون مع المحكمة، وبالتالي رفضت تسليمهم. لقد حققت المحاكم في رواندا بعض العدالة، لكنها كانت مرتبطة بالقرار السياسي للمجتمع الدولي، ولم تكن لتجرَ لولا وقوف الدول الكبرى إلى جانب المحكمة ودعمها.

ليس لدى السلطة الفلسطينية ما تقوله، لذا تكرر التصريحات ذاتها مهددة بتحريك قضايا نعرف أن تحريكها بحاجة إلى قوى دولية

وإن نحن تغاضينا عن كل هذا، ونظرنا للجانب المشرق من إنشاء "محكمة الجنايات الدولية"، وأهميتها في إرساء فكرة العدالة الإنسانية وحقوق الإنسان، وسلمنا بأن هنالك جدوى حقيقية لأجهزة العدالة الدولية، فسنبقى مع مواجهة السؤال الثاني: هل هناك جدوى من انضمام فلسطين لهذه المحكمة؟!

لقد كان أمام السلطة الفلسطينية خيارين بخصوص محكمة الجنايات الدولية، الأول، وهو الخيار الأفضل من ناحية منطقية: أن تقبل السلطة الفلسطينية اختصاص المحكمة لتحريك قضايا محددة ضد شخصيات إسرائيلية؛ أي تقبل تطبيق نظام المحكمة في قضايا معينة فقط، بالتالي تنتهي العلاقة بين فلسطين والمحكمة بمجرد الانتهاء من هذه القضايا ولا يترتب على السلطة الفلسطينية أية التزامات قانونية خارج هذه القضايا. أما الخيار الثاني فهو خيار الانضمام إلى المحكمة، وهو ما قامت به فعلًا، وبالتالي قبلت نظام المحكمة الأساسي، وتحملت كافة التبعات القانونية، أحد هذه التبعات هو في حال قامت إسرائيل بتحريك دعوى ضد مقاومين فلسطينيين، سيكون على السلطة الفلسطينية تسليم هؤلاء المقاومين إلى محكمة الجنايات بصفتها دولة طرف قبلت بأنظمة المحكمة.

اقرأ/ي أيضًا: الطريق إلى حيفا

السلطة الفلسطينية تعرف تمامًا أن تحريك أية دعوى في "محكمة الجنايات الدولية" ضد شخصيات إسرائيلية هو حلم بعيد إن لم يكن وهمًا كبيرًا، خاصة في ظلّ ثغرات كثيرة في ميثاق روما الأساسي والقوانين التي تستند عليها المحكمة. فعلى فرض أننا تمكنا من تخطي كل العقبات ونجحنا في تحريك دعوى ضد إسرائيل، سيكون من حق مجلس الأمن الذي يقف أعضاؤه الثقيلون إلى جانب إسرائيل منذ نشأتها وحتى اليوم، تأجيل أية دعوى قضائية لمدة اثني عشر شهرًا قابلين للتجديد (ولم يحدد ميثاق روما كم مرة يحق لمجلس الأمن أن يؤجل الدعوى).

لكننا لن نصل حتى إلى هذا السيناريو، لأن العقبات التي تسبقه ستجهض أية دعوى قضائية وهي في طورها الجنيني الأول. وهذا شرحه القانونيون كثيرًا وأكثروا في شرحه. ولا أعتقد أن السلطة الفلسطينية غير مدركة لاستحالة تنفيذ تهديداتها بتحريك قضايا في محكمة الجنايات الدولية، بل أعتقد أن السلطة كانت على وعي تام بهذه الاستحالة، وإلا كانت لجأت إلى الخيار الأول، برفع قضية وقبول اختصاص المحكمة بشكل مؤقت دون الانضمام الكامل. 

لكنها تعرف أن تحريك دعوى ضد شخصيات إسرائيلية محال، وهي تريد إنجازًا سياسيًا، إنجازًا إعلاميًا تشغل به الرأي العام المحلي والعالمي، لذلك قبلت بالخيار الثاني، الانضمام للمحكمة، وهو انضمام عقيم لن ينجب أية خطوات أخرى،هو الخطوة الأولى والنهائية، ليس هناك ما يليه، لكن هذه القضية شغلت الرأي العام العالمي والمحلي مدة كافية، وأعطت السلطة الفلسطينية موضوعًا تتحدث به أمام وسائل الإعلام وأمام الجماهير.

انضمام السلطة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية عقيم، لن ينجب أية خطوات أخرى، فهو الخطوة الأولى والنهائية

إن تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس، ومن قبله صائب عريقات وجميع القادة السياسيين في السلطة الفلسطينية، تعقيبًا على الهبّة الجماهيرية الأخيرة في فلسطين، التي هددوا فيها بمحاكمة إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية، ليست سوى تهديدات فارغة، لا يصدقها سوى من كذب الكذبة، "السحيجة"، وكل من دفن رأسه كالنّعام. لقد كان انضمام السلطة الفلسطينية إلى محكمة الجنايات إذانًا بانتهاء خياراتها السياسية ودخولها في مرحلة تخبط طويلة، ما دأبت على فعله سنوات طويلة انتهى إلى لا شيء، المفاوضات التي بشرت بها انتهت من حيث بدأت، وإسرائيل تعمل بجهد على أن لا تترك شيئًا للتفاوض عليه في المستقبل، لقد عبر الساسة الدوليون في أكثر من مناسبة أنه من الصعب إيجاد طريق في مسار السلام بين إسرائيل وفلسطين. ليس لدى السلطة الفلسطينية ما تقوله، إنها تكرر منذ سنتين التصريحات ذاتها، تهدد بتحريك قضايا نعرف أن تحريكها بحاجة إلى قوى دولية.      

لن يكون هناك قضايا، ولن يكون هناك محاكمات، والسؤال هو ليس ماذا ستفعل السلطة الفلسطينية في محكمة الجنايات الدولية، بل ماذا ستفعل الآن، وقد بدأت لعبة المحكمة الجنائية -التي اشتركت فيها إسرائيل بطريقة وبأخرى- بالاهتراء كما اهترأت لعبة المفاوضات من قبل؟ 

اقرأ/ي أيضًا: إنه كافر.. اقتلوه