حدثان مهمان يجب التوقف عندهما في محاولة فهم مستجد خطير في الإعلام المصري، تبدى خلال الشهر الفائت. المستجد هو مساحة وافرة باتت توفرها الصحافة الإسرائيلية، لا سيما التلفزة العاشرة والثانية، للإعلام المصري، ليس الإعلام المصري بكليته، بل شق منه، ما كان يستحق أي التفات من فرط ديماغوجيته وتشوهه المهني وتوظيفه الأمني والسياسي، لولا العناية الإسرائيلية البالغة به.
حين نتحدث عن إعلام إسرائيلي فنحن أمام آلة إعلامية تضع أجندتها مستويات سياسية وتراقبها وتضبط أداءها جهات أمنية
والحدثان المهمان المتصلان أيما اتصال بهذه العناية الإسرائيلية بصحيفة كاليوم السابع مثلًا، وتقاريرها الأشبه بحفنة تهويمات وخيالات، هما إعادة افتتاح السفارة الإسرائيلية في القاهرة، بهدوء عجيب، وزيارات محمد دحلان المتكررة لوسائل الإعلام المصرية، وآخرها زيارته لليوم السابع واجتماعه مع صحفييها كأنه رئيس تحريرهم.
الزيارة أولًا ثم افتتاح السفارة، أشرعا الاهتمام الإسرائيلي اللافت بصحيفة اليوم السابع. وبدأ الإعلام الإسرائيلي ينقل ويحلل ويناقش ما تقول الصحيفة.
نحن أمام إعلام خبير لا يصدر عن مرتشين وأنصاف مخبرين ولا يموله رجال الأعمال وتجار الأسلحة. حين نتحدث عن إعلام إسرائيلي فنحن أمام آلة إعلامية تضع أجندتها مستويات سياسية وتراقبها وتضبط أداءها وتحدد جزءًا وافرًا منه جهات أمنية عسكرية، وهامش الاجتهاد الشخصي فيها معدوم، هنا نموذج فريد للإعلام الموجه، كان ولا يزال صالحًا للدراسة والتمعن.
فماذا يعني انشغال هذا الإعلام بالنقل عن صحيفة تسارع في تحوّلها إلى صحيفة شائعات ودسائس مثل اليوم السابع؟
كيف يمكن فهم هذا التناغم العجيب، حتى يبدو أن بعض الإعلام المصري الموالي للسيسي يضع أجندة الإعلام الإسرائيلي، حين ينشر أخباره وتقاريره فتسارع التلفزة الإسرائيلية لنقل الأخبار والتحليلات وتطرحها للفحص والتعليق؟ ألا تبدو العلاقة بهذا الشكل غير مستوعبة؟
الاقتراح هنا هو قلب المسار، حتى يغدو مفهومًا ببساطة، وهذه لعبة إسرائيلية مستمرة.
تدفع إسرائيل، عبر أذرعها المختلفة، في الدبلوماسية والصحافة، بما تريد قوله عبر الإعلام العربي
تدفع إسرائيل، عبر أذرعها المختلفة، في الدبلوماسية والصحافة وعبر سفاراتها المرحب بها، بما تريد قوله عبر الإعلام العربي، بدراية هذا الإعلام أو باستغفاله، ويتم الأمر عادة عبر صحفين وسطاء ومصادر مختلفة. وحين ينشر الإعلام العربي المخترق أو المتواطئ ما تريد إسرائيل قوله ونشره، تقوم وسائل إعلامها بتلقّفه ونشره على لسان الصحافة العربية.
المنطقي هنا أن أجندة اليوم السابع في ما يتعلق بغزة والقضية الفلسطينية والمقاومة ورموزها، تصلها من مكان ما، وحضور دحلان بماله، وجلسته على رأس ديسك التحرير، يوضح المدخل الإسرائيلي التقليدي منذ بدايات التسعينيات. ثم يأتي الإعلام الإسرائيلي ليعيد النشر والترويج على أنه وارد من صحيفة مصرية، لعبة قديمة متجددة.
مع الحالة العجيبة التي بلغتها الصحافة المصرية هذه الأيام، لا يبدو أن هنالك أي متسع لنقد مهني أو عقلاني للحالة، بل يبدو أي نقد جاد بمثابة امتهان للنقد الجاد إن كان موضوعه صحيفة مثل اليوم السابع خاصة تناولها للشأن الفلسطيني أو المناوئ لنظام السيسي.
قد يقول قائل ومعه كل الحق، في أن نقد الإعلام المصري اليوم بحاجة إلى قدر هائل من الانحطاط لبلوغه وكشف بؤس حاله، وهذا مفهوم وهو ما يجعل الانشغال بصحيفة كاليوم السابع فكاهيًا إلى حد بعيد. إلا أن ما يستحق هنا الانتباه هو الصمت المريب، من "النخبة" الصحفية المصرية عن العلاقة المشبوهة مع الإعلام الإسرائيلي، وكيفية مأسسة هذه العلاقة، وهو الصمت المريب ذاته الذي سيطر على أجواء افتتاح السفارة الإسرائيلية.
لا يخفى على أحد، أن إسرائيل تنظر إلى السلطة الحالية بمصر بكل اطمئنان وسعادة، وهنالك من يحاول أن يتعامل مع الأمر وكأنه عادي، وفي ظرف كهذا يبدو طبيعيًا وجود صحافة مصرية ناطقة باسم إسرائيل ورجالها في المنطقة العربية، الذين يتنقلون من مقاعد عربات السلاح المهرب من صربيا، إلى مقاعد رئاسة تحرير صحفية يفترض أنها "عربية"، لتلمّعهم كخيار لرئاستنا نحن الفلسطينيين.
المهم هنا أن هذه المأسسة ستزدهر بلا شك في ظل رعاية نظام السيسي لها، وبجهود السفارة الإسرائيلية، وإن كانت النخب المصرية الصحفية صامتة إزاءها ولا تحرك ساكنًا، فإن جهد المتابعة والرصد وكشف هذه العلاقة واجب على مختلف وسائل الإعلام الفلسطينية والمنشغلين بالصحافة الإسرائيلية، خاصة حين تنقل وسائل إعلام فلسطينية عن الصحف المصرية موادها بسذاجة عجيبة، فتنضم إلى حلقة الإعلام العربي الموجه إسرائيليًا، أو بلغة أدق وأصح، تنضم مع صحفيين في اليوم السابع إلى "اللوبي الإسرائيلي في الإعلام العربي".
قسم "راصد" في الترا صوت، سينشر على حلقات متتالية كيفية مأسسة وإدارة اللوبي الإسرائيلي في الإعلام العربي، عبر رصد الخيوط والأجندات الإعلامية العربية الإسرائيلية المشتركة.