10-فبراير-2017

تختار الفتاة أن تمر سريعًا، فالشباب الواقفون على الرصيف  يتمازحون فيما بينهم بكلام خادش لـ "الحياء العام". هي لا تعلم، هل يتعمّدون ذلك بينما تمر بجوارهم بوصف ذلك نوعًا من "الغزل العام" الذي يحدث لكثير من النساء في الشارع؟ أم أنّ هذا الكلام هو جزء طبيعي من "الكلام العام" الذي يتحدثون به في حالات الجد، والمزاح والشجار فيما بينهم؟

في مجتمع يحارب هوسه بالأشياء بالبصق عليها ولعنها أو تجاهلها، فإن مجرد الحديث عنها في رواية، كفيلٌ بأن تقوم الدنيا ولا تقعد على الكاتب ونصّه 

لا يجرنّك الفضول وتسأل ما الكلمات التي قالها الشباب، ففي حال كُتبت هنا فإنّ هذا المقال سيثير ضجة بوصفه إباحيًّا، ويحاول تشويه قيم مجتمعنا، لاحتوائه على مصطلحات مخلّة بالحياء والأخلاق والآداب العامّة، والتي من شأنها المساس بالمواطن، تمامًا كما جاء في البيان الصادر عن النيابة العامّة الفلسطينية القاضي بمصادرة رواية "جريمة في رام لله"، واستدعاء كاتبها عبّاد يحيى، للتحقيق.

كلّ الكلمات الجنسية وما يتعلق بها من أسماء الأعضاء أو الحالات أو الميول هي المرغوب المسكوت عنه، وفي مجتمع يحارب هوسه بالأشياء بالبصق عليها ولعنها أو تجاهلها، فإن مجرد الحديث عنها في رواية بوصفها جزءًا مما يعيشه الناس يوميًا، كفيلٌ بأن تقوم الدنيا ولا تقعد على الكاتب ونصّه دون النظر للسياق الذي وردت فيه الكلمات أو محاولة فهم المغزى الذي يريد الكاتب إيصاله. ثم إنّ هناك استخفافًا بفكرة أنّ أيّ مشهد جنسي قد يحمل أي فكرة أو رسالة سوى الإغراء، فالتعامل مع الجنس -رغم الهوس به- بالنبذ والاشمئزاز هو الطبع الأغلب في المجتمعات المحافظة.

ولكن ما هو المجتمع المحافظ؟ هل هو المجتمع الذي يعيش مواطنوه نمط حياة محافظ تحكمه العادات والقيم الدينية فلا تجد فيه ما يخدش الحياء أو يؤذي العين، وليس هناك الكثير من الجرائم، فالناس تعيش بود وسلام؟ أم أنّه المجتمع الذي يحدث فيه كل شيء مثل أي مجتمع آخر، ولكنّه يختار أن يتعامل مع ما يحصل داخله بشكل محافظ، فيحافظ على الصمت ولا يجلب قضاياه إلى العلن، ولا يسمح بالحديث العام عنها لأن الحديث عنها يؤذي الوطن والمواطن؟ من الغريب أن تكون الكتابة عمّا يحصل أو الحديث عنه  مؤذية أكثر من حقيقة حدوثه، وأن الضجة التي تثار على فعل الكتابة عن الجريمة أكبر من الضجة على حدوث الجريمة. ومن الغريب أيضًا كيف تصبح الكتابة عن الجريمة هي الجريمة! ثم كيف يكون تجسيد واقع مجتمع خادشًا لحيائه بينما هو يعيش هذا الواقع ولا يخدش حياؤه، على الأقل بشكل كافي ليواجهه؟

أمّا عن منع الكتب؛ ففي الحقيقة لا أجد أي مواساة للكاتب الذي يُمنع كتابه من التداول بأن قرّاءه سيزيدون، وأن مؤشرات البحث عن الكتاب سترتفع، فهذه النوعية من الفضول تشبه الفضول الرخيص الذي تحاول الصحافة الصفراء خلقه حول أخبارها بإضافة كلمة (للكبار فقط) أو (+18) كمؤشر على وجود مواد أو صور جنسية ضمن الخبر. عندها يتحول البحث عن الرواية إلى بحث عن فيلم إباحي، وتصبح القراءة مجرّد تمرير سريع للوصول إلى أكثر المشاهد سخونة وإثارة. ما أعنيه أنّ هذه الفئة من القرّاء لن تقرأ لأنها تريد أن تقرأ، وهي على الأغلب ستكون الفئة التي ستلفتها الكلمات الجنسية في النص أكثر من النص نفسه.

أسوأ ما يحصل في أزمات الحظر هو أن ينصرف الناس عن الفكرة الأهم وهي خطورة المنع، ويشغلهم الفضول لملاحقة الممنوع والحصول عليه، ولكن هل علينا أن نقرأ الكتب الممنوعة أولًا حتى نعلن موقفنا من منعها؟ أم أن علينا رفض المنع بحد ذاته دون معرفة إذا كان الكتاب الممنوع يستحق المنع؟ لحظة، هل هناك كتب تستحق المنع؟

وفقًا لمقال منشور على الترا صوت بعنوان "أمريكا تمنع الكتب أيضًا"، فإنّ الولايات المتحدة تنشر سنويًا قائمة بعناوين الكتب الممنوعة التي تتجاوز الحدود المسموحة بها، من حيث لغتها ومواضيعها. بمعنى أنّ الكتب التي تستخدم التعابير البذيئة والعنصرية، والتي تدور مواضيعها حول قضايا جنسية أو أخلاقية أو سياسية تخدش الحياء والذوق العام.

أسباب منع الكتب متشابهة إذًا، ففي البلاد العربية ستحظى بنفس الإجابة بل وربما ذات الكلمات بالضبط حول أسباب منع كتاب وحظره من النشر، ولكن لحظة فاستخدام الكلمات ذاتها لا يلغي اختلاف المعاني المرتبطة بها، فمصطلح  الحياء العام في السعودية بالتأكيد ليس ذاته في الولايات المتحدة. وبينما قد تكون التعابير البذيئة في فلسطين هي تسمية الأعضاء الجنسية بمسمياتها العامية، فإن ذلك قد لا يعتبر شيئًا بذيئًا قد يحظر بسببه كتاب في بلد أخر.

هناك فرق أخر ويكمن في كيفية التعامل مع أزمة الحظر. فقد جاء في ذات المقال أيضًا أنّ منظمة "جمعية المكتبات الأمريكية" تحيي أسبوعًا ثقافيًا في الأسبوع الأخير من شهر آب/أغسطس في كل عام، يشمل أنشطة وفعاليات في كامل أنحاء البلاد بغية التعريف بالكتب التي تتعرض لمحنة الرقابة، وتقوم بقراءة مقاطع من تلك الكتب أمام الجمهور.

وتبدو مثل هذه الفعاليات أفضل ردٍّ على سياسة المنع، ليس لأنها تُعرف الجمهور على تلك الكتب فقط، فالمنع في زمن الانترنت يبدو سخيفًا، بل لأن مثل هذه الفعاليات تحوّل الرفض والقراءة والمعرفة إلى سلوك عام، وتدافع عن الفكرة بذات الأدوات التي حُربت الفكرة باسمها وهي الذوق العام. وتنقل المعركة من معركة بين الكاتب والدولة إلى معركة بين الدولة والرأي العام الذي عادة ما تستخدمه الدولة كأداة منع باسم مواطنيها وضدهم في ذات الوقت.

آه.. ما أقسى الجدار
عندما ينهض فى وجه الشروق 
ربما ننفق كل العمر كي ننقب ثغرة 
ليمر النور للأجيال مرة!
ربما لو لم يكن هذا الجدار ..
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق!

أمل دنقل- البكاء بين يدي زرقاء اليمامة

اقرأ/ي أيضًا: 

مثقفون يدينون قرار مصادرة رواية جريمة في رام الله

النسخة الثالثة لتظاهرة "سينما فلسطينية" في تولوز

"بدلة الشاباص" وتعديلات الأسرى عليها