مقال رأي |
قد لا يوجد تعبير في السياق الفلسطيني يمتلك قدرًا وافرًا من الاستخدام والذيوع وفي الوقت عينه عدم الوضوح، مثل تعبير "المشروع الوطني الفلسطيني"، لدرجة تجعل التعامل معه كمصطلح غير ممكنة. يستخدم هذا التعبير بإفراط ليعني شيئًا يبدو وكأنه مفهوم ضمنًا في حين لا ينطوي على أي درجة معقولة من الفهم المشترك. وإن نظرنا في الاستخدام ضمن الخطاب السياسي ومقالات الرأي والمساجلة والحديث السياسي اليومي، فإن استخدام التعبير هذا يحيل إلى مضامين متباينة ومتنافرة ومؤخرًا متصادمة. ما يجعل الدقة تدعو للقول صراحة إننا حيال "مشاريع" لا مشروع واحد.
"المشروع الوطني".. يستخدم هذا التعبير بإفراط ليعني شيئًا يبدو وكأنه مفهوم ضمنًا في حين لا ينطوي على أي درجة معقولة من الفهم
ولا يبدو "المشروع" واضحًا عند مستخدميه قدر وضوحه عند استخدامه من طرف السلطة الفلسطينية وحركة فتح وعناصرها. وفي الموجة الأخيرة من الاحتقان الداخلي ما أكثر ما يستخدم التعبير للقول إن هذا المشروع محل تهديد ومؤامرة. فما هو المشروع الوطني الفلسطيني بالنسبة إلى السلطة وفتح؟
ثمة محطتان رئيستان يمكن اقتراحهما لتبلور المشروع، بمعنى يتجاوز البرنامج أو الرؤية والتصور، أي أنه ينطوي على عناصر مادية صلبة، مؤسسات وشبكات إدارية أو تنظيمية يحكمها قرار مركزي إلى حد كبير، وتسود فيها قناعة مشتركة بمصالح هذا المشروع والمنضوين فيه، وبالنتيجة البدهية، تحديات وتهديدات.
المحطة الأولى هي إنشاء السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، والثانية هي فترة ما بعد الانتفاضة الثانية، بعد التدمير الواسع للمكوّنات المادية للمشروع عبر الاجتياح الإسرائيلي وصولًا لتصفية الراحل ياسر عرفات. تتشابه المحطتان ببناء المؤسسات والبنى الإدارية والتنظيمية على أسس جديدة، وتتشابهان في تعريف واضح وجديد للمنخرطين ضمن شبكات واسعة تمثلها المؤسسات والأجهزة والعلاقات بينها، وكذلك في التحديات، وعلى رأسها تحدي الاستمرار والبقاء، وفي تعريف مصالح المشروع بمؤسساته وأفراده. وتتشابهان أيضًا في الغاية النهائية للمشروع، أي تحوّله إلى دولة يفضي إليها الحل السياسي.
أما افتراقهما الأهم، فهو متصل بمآلات المرحلة الأولى، حين أفضت القناعة بالتهديد الإسرائيلي للمشروع برمته إلى الصدام معه، ثم تدمير "إسرائيل" لبناه المادية وشبكاته إلى حد بعيد، مترافقة مع صعود مشروع وطني آخر هو مشروع حماس، وتحوّله بعد الانتخابات في 2006 والانقسام الفلسطيني إلى مشروع بمثابة "آخر" مقابل لمشروع السلطة وفتح، يتشابهان شكليًا بالمؤسسات والشبكات والمصالح، ولكن لا يمكنهما التعايش معًا أو الانضواء ضمن مؤسسات وبنى واحدة تتسع للمشروعين. هذا التهديد المزدوج بالنسبة لمشروع السلطة، ممثلًا بإمكانية تكرار التدمير الإسرائيلي أو النزاع مع حماس أو "انقلابها" بلغة مشروع فتح، جعل "الحفاظ على المشروع الوطني" أهم من غايته، أي الوصول للدولة.
وما يرد هنا موجزًا، صار بعد الانقسام وإعادة هيكلة أجهزة الأمن الفلسطينية وإنهاء الانتفاضة ومرحلة أبو عمار، قناعة وطنية راسخة وجماعة للمنخرطين في المشروع وفي شبكاته ومؤسساته. فالمشروع الوطني الفلسطيني هذا مهدد، وكل سبب للتهديد تجب مواجهته بكل الوسائل التي لا تفضي إلى مزيد من تهديده أو قد تعيد كرّة تدميره من طرف "إسرائيل". في هذا السياق يمكن فهم التنظير ضد العمل المسلح لفصائل فلسطينية في الضفة كمبرر لـ "إسرائيل" لتدمير السلطة، ولذا لا بد من مواجهة هذا العمل المسلح، ناهيك عن إمكانية استخدام السلاح ضد السلطة نفسها وهو ما حصل في غزة. هذا ما يوصف عند خصوم السلطة بـ"التنسيق الأمني"، وبالنسبة لمنطق المشروع ومصالحه فهو أسلوب، يغدو وطنيًا لأن هدفه وطني، أي الحفاظ على المشروع نفسه.
يقول كثيرون إن المشروع الوطني بمعناه التحرري تم تقزيمه وحشره في السلطة، وأنه صار مشروع وكالة عن الاحتلال ويتهمونه بكل الاتهامات الممكنة، ولكنّه من داخله يمتلك منطقه الخاص
يقول كثيرون إن المشروع الوطني بمعناه التحرري تم تقزيمه وحشره في السلطة، يقولون إنه صار مشروع وكالة عن الاحتلال ويتهمونه بكل الاتهامات الممكنة، ولكنّه من داخله يمتلك منطقه الخاص. فالمواجهة مع الاحتلال سلمية شعبية حصرًا، وضمن الحدود التي تراعي القوانين الدولية وتمتثل لها. وتحظى بعض نماذج من هذا الفعل المدعوم من السلطة وفتح بإجماع شعبي، وآخرها نموذج بلدة بيتا.
المشروع الوطني الفلسطيني الآخر هو مشروع حماس، وبعد السيطرة على قطاع غزة، نحا لتشابه مع مشروع السلطة وفتح، لا يتوقف خصوم حماس عن الإشارة إليه، وبلغ ذروته مع معادلة الهدوء في غزة مقابل تسهيل حياة الفلسطينيين برعاية دولية والتحوّل إلى مسيرات العودة السلمية وتنسيق أو ضبط المواجهة مع "إسرائيل" ضمن معادلة سياسية، يثبت يومًا بعد يوم هدف واضح لها هو الحفاظ على المشروع بمؤسساته وبناه. وكاد يتفق مع مشروع السلطة بالاستجابة لمبادرات سياسية لأفق الصراع مع "إسرائيل" والحل السياسي الممكن. ومع اختلافات يراها كثيرون بين المشروعين، وتحديدًا في السجال السياسي، إلا أن مشروع السلطة لا يكاد يرى في مشروع حماس إلا ما يشبهه، في حين لا يرى مشروع حماس في مشروع السلطة شيئًا من التشابهات الواضحة البيّنة.
في الممارسة الانقسامية يرى كل مشروع في أي تهديد داخلي، لا صلة واضحة لـ "إسرائيل" به، نقاط التقاء مع المشروع الآخر المناوئ. ويسارعان لربط أي احتجاج داخلي بالآخر النقيض. وتُستخدم "إسرائيل" في السجال، فكل طرف يتهم الآخر بالالتقاء معها في هدفها تدمير مشروعه أو الانقضاض عليه. من المهم هنا فهم المنطق الداخلي لكل مشروع، وكيف يصوغ خطابه الداخلي ويرسخه في شبكاته ومؤسساته، ولكل منهما وسائله في الدعاية الإعلامية والتأثير في المنخرطين في شبكاته. وإن إنكار هذا المنطق الداخلي هو معيق رئيس لفهم هذه الاستمرارية والقوة المتصاعدة للمشروعين. نعم حين يحقق ضابط أمني في أجهزة السلطة مع فرد في خلية مسلحة لحماس في الضفة فهو يرى في فعله ضد الاحتلال تهديدًا للسلطة وبقائها، إما باستجلابه للرد الإسرائيلي المدمر، أو في إمكانية استخدام السلاح ضد السلطة أو في كسب شعبية وشرعية داخليًا، هي في النهاية استهداف للسلطة وشرعيتها وسيادتها، فكما تقرر حماس الحرب من عدمها في غزة، للسلطة أن تقرر في الضفة. وبمنطق شبيه يرى ضابط أمن في أجهزة حماس في احتجاجات مطلبية في القطاع، تأليبًا للعامة بما يفتّ في عضد الجبهة الداخلية ضمن المواجهة المفتوحة مع "إسرائيل"، وتنسيقًا مفترضًا مع أجهزة أمن في الضفة أو ارتباطًا تنظيميًا مع المشروع الآخر الذي يوفر التمويل والتحريض. لك ألا تقتع بهذا أو تستسخفه، ولكنّه مقنع في سياقه الداخلي وهذا المهم. ومع حقيقة أن كل سلطة منهما تحكم منطقة فيها من موالي الآخر عشرات آلاف أو أكثر، يصبح الشعور بالتهديد مستمرًا والانشغال بالداخل أمرًا مصيريًا يحتاج أجهزة ومؤسسات ضبط وتحييد.
والشاهد الأهم على مستوى ذيوع هذا المنطق هو تماهي الحركتين، فتح وحماس بقاعدتيهما الجماهيريتين الواسعتين، مع مشروع كل منهما، مشروع السلطة في الضفة وغزة، بمؤسساته وخطابه وشبكات مصالحه، وفي الدفاع المستميت عن كل سلوك، على وسائل التواصل، وصولًا إلى التحشيد على الأرض للفتك بالخصوم. وفي المشروعين، يمكن القول إن كلمة السر هي بقاء المشروع الذي صار أهم من غاياته، وصولًا إلى اعتبار البقاء هو الغاية.
هل ثمة فرصة لمشاريع وطنية فلسطينية أخرى؟
هناك مبادرات عديدة تصف نفسها بـ"مشروع وطني فلسطيني" أو محاولات لاستعادته، أو التركيز على بعده التحرري، وتنشط في غالبها خارج فلسطين، ولكنها تفتقر إلى مؤسسات وصيغ تنظيمية واسعة وشبكات تعترف بمصلحة عامة واحدة. وحتى في صيغتها الغضة كمبادرات أو تجمعات تجد نفسها في مواجهة المشروعين في كل نقاط نشاطهما عبر العالم لا في فلسطين وحسب. خاصة حين تنازع المشروعين على "الوطنية" الفلسطينية وفهمها والتعبير عنها.
إن وجود هذين المشروعين الكبيرين (السلطة في الضفة/فتح، السلطة في غزة/حماس)، وبالبعد الوطني الحاضر في كل منهما بمنطقه الخاص، والذي يلقى اعترافًا عامًا تحديدًا في وقت المواجهة مع الاحتلال، وفي ظل التنازع بينهما في الشأن الداخلي، يجعل فرصة وجود مشروع ثالث من ناحية عملية تحديًا كبيرًا، ويظل استهداف أي مشروع جديد في مناطق سيطرة أي من المشروعين سهلًا من مدخل علاقته بالمشروع الآخر المقابل. ما يعني أن التنافر بين المشروعين يمدهما بأسباب البقاء، ما يخلق توازنًا في هذه العلاقة التنافرية يحفظ طرفيها.
هناك مبادرات عديدة تصف نفسها بـ"مشروع وطني فلسطيني" أو محاولات لاستعادته، ولكنها تفتقر إلى مؤسسات وصيغ تنظيمية واسعة
ولكن المدخل أو الأرضية التي يفتقر إليها المشروعان، هي الإقرار بمنظومة ديمقراطية وحقوقية مع أولوية الحريات العامة وكرامة البشر، هذه الأرضية المستهدفة دومًا والمسقطة من الاعتبار تحت ذرائع المواجهة مع الاحتلال والتهديد من المشروع المقابل. هذه المنظومة الديمقراطية من الحقوق والحريات هي أرضية واعدة لمشروع جديد يحتاجه الفلسطينيون ويبني اختلافه مع المشروعين القائمين على هذه الأرضية ويؤكد تمايزه بها عنهما. وهذا يعني تعريف الوطنية الفلسطينية من خلال استدخال منطق ديمقراطي حقوقي حرياتي ضمنها، بتنظير واسع وجهد جماعي.
بالنظر للاحتجاج على المشروعين، وعلى مشروع السلطة/فتح تحديدًا، لأنه موضوع الاحتقان الأخير، يلاحظ صعود معارضة داخلية هي في حقيقتها محاولة للتعايش مع المشروعين في كل من غزة والضفة، وتحسين شروط الحياة في ظل وجودهما. تتكون هذه المعارضة من مؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات المدنية والأهلية والنقابات، أي المجتمع المدني الفلسطيني بمعناه التقليدي الباقي منذ سنوات أكبر من عمر السلطتين. هذه المعارضة الداخلية مقرّة بالطابع "الوطني" للمشروع ولا تنازعه. وإن حصل ولمزت في سجال سياسي مع أي من المشروعين من طرف العلاقة مع الاحتلال أو التفاهم معه، فلا يتعدى الأمر السجال ولا تلبث مفردات التوحيد والتناقض الرئيس مع الاحتلال وأخوة النضال أن تعود إلى المشهد.
وبروز "الفساد" كموضوع أساسي للنقد والاحتجاج يؤكد توجه المعارضة نحو الداخل بالدرجة الأولى لا صوب الاحتلال. وبالفعل السياسي كان التوجه بعشرات القوائم الانتخابية للتسجيل للانتخابات التي لم تتم، دليلًا على المعارضة من الداخل، والإقرار بحتمية المشروع وبقائه ووطنيته من خلال قبول الانتساب لمؤسسات نشأت عنه. وبدا واضحًا فعالية هذا التهديد من الداخل للمشروع وشخوصه وصولًا إلى إلغاء الانتخابات بعد القناعة باستحالة تأمين نتائجها قبل تنظيمها.
ثمة معارضة أخرى، تظهر في مشهد الاحتجاج على مشروع السلطة، تتشكل من نواة من المحتجين، نواة صغيرة ولكنّها صلبة وتنشط منذ سنوات بلا كلل ومستعدة لدفع أثمان غالية ومواجهة التنكيل والقمع وصولًا للموت في مواجهتها مع المشروع الذي لا تراه وطنيًا، ولكنها لم تتمكن من تطوير نفسها بالحد الأدنى كمشروع أو حتى كحركة احتجاج جامعة. فمقابل الخطاب الداخلي المتماسك للمشروعين، لا يوجد شيء من هذا داخل هذه المجموعات. لا نكاد نجد أي خلاف داخل المشروعين على موضوع الحقوق والحريات العامة، ولكننا لا نجد اتفاقًا بالحد الأدنى على شيء من هذا عند نواة الاحتجاج الصلبة هذه، بل على العكس، يحدث أن تتبنى مواقف معادية لحقوق الإنسان في قضايا أخلاقية واضحة أو تنحاز لأنظمة غير ديمقراطية استبدادية تتشابه في سلوكها المعادي لحقوق الإنسان وكرامته مع التعديات الأمنية من طرف السلطات في فلسطين.
في مشهد الاحتجاج على مشروع السلطة، تتشكل نواة صلبة من المحتجين المستعدين للموت في مواجهة المشروع الذي لا تراه وطنيًا، ولكنها لم تتمكن من تطوير نفسها
يجيب مشروعا السلطتين على كل الأسئلة داخل المشروعين نفسيهما، كل الأسئلة قطعًا، فهذا جوهري لاستمرار المشروع وشبكات مصالحه، ولكننا لا نجد إجابات عند هذه المجموعة، ماذا سنفعل بالمؤسسات؟ ماذا يعني حل السلطة عمليًا؟ ماذا سيحدث لو رحل من تطلبون رحيله؟ من كان قبله هتف كثيرون مطالبين برحيله، منهم من ورثوا المرحلة. هل هنالك إجابات محددة لهذا التماهي بين السلطة والناس؟
حين يكون المعارضون الفاعلون بضع مئات في أحسن الأحوال، في حين المدافعون المنخرطون في المشروع مئات آلاف، فهذا قد لا يعني تضليلًا ولا مجرد انتفاع أو رواتب زهيدة. هذه مشاريع واضحة وراسخة ولها شبكاتها وخطابها "الوطني" المقنع من داخله على الأقل. في حين لا تجد الحركة الاحتجاجية منفذًا إلى الناس أو لتغيير مواقفهم نتيجة غياب خطاب واضح تقدمه في مواجهة المشروع.
لا شك أن في المشروعين تناقضات داخلية، وتيارات وأجنحة متصارعة. ولكن ما يستدعي الانتباه أن كل احتجاج على المشروعين يستخدم لحسم خلافات داخلية فيهما أيضًا. حتى يصير الاحتجاج الداخلي ذريعة حسم وتوحيد صفوف في مواجهة مؤامرة من مصلحة كل مكونات المشروع إجهاضها. هكذا تصبح المعارضة غير الواضحة في مشروعها وفي تناقضها مع المشروع، عنصر سيطرة وتمكين داخل المشروع نفسه. ولا يمكن فهم هذا التجييش الداخلي في مشروع السلطة ضد احتجاجات قوامها عشرات أو مئات في أحسن الاحوال، إلا في سياق الضبط الداخلي للتنافس داخل المشروع نفسه وإحكام السيطرة عليه من جناح ضد آخر. ثمة رصيد ينقص وآخر يتراكم مع كل مواجهة داخلية، قد يكون من المنطقي عدم إغفاله.
إن كان يمكن اقتراح اختراق في هذا المشهد فهو التقاء النواة الاحتجاجية الصلبة مع المعارضة الواسعة ممثلة بالمجتمع المدني ومؤسساته، على أرضية خطاب حقوقي ديمقراطي قوامه الكرامة والحريات بوصفها مقومات أساسية لأي مشروع وطني قادم، والتناقض فيها مع المشروعين المسيطرين أكيد وواضح. وحتى إن لم يفلح المشروع بالتشكل بصيغة مكتملة فإنه سيشكل ضغطًا واسعًا على المشروعين وقاعدتهما الشعبية الواسعة للإقرار بالحريات والحقوق كجزء لا يتجزأ من الوطنية الفلسطينية واكتساب الشرعية عند الفلسطينيين.
اقرأ/ي أيضًا: